×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
شتيوي العطوي

تحيّة للعزوبيّة !
شتيوي العطوي

قال لي صاحبي وهو يحاورني : رأيت عبارة مكتوبة باللّون الأسود " على أحد الجدران تقول : شقق عزبان وهمّ نسوان ! فتذكّرت حياة العزوبيّة، وتحسّرت على أيّامها ولياليها الحسان البهيّة، بعد أن وقع رأسي في شرك الحياة الزوجيّة ، وقد نصب لي هذا الشّرك بداية منذ أن كنت طفلا يمصّ أصابع يديه ورجليه . ففي تلك الفترة المبكّرة ذهبت أمّي على حين نومة منّي إلى إحدى القريبات تحجز لي ابنتها المولودة حديثا، فالبنات في تلك الفترة نادرات . لكن، وبحسب رواية أمّي، فإنّ البنت ماتت بالحصبة، وهذا يعني أنّه سيطول أمدي في الحصول على القرينة . والحقيقة أنّ تلك الهرطقة لم تكن تعنيني، وهمّي أن ألتقم شطر أمّي، وأضع قدمي على الشّطر الآخر مخافة أن يلتقمه إبن عمّي " معتوق " . حيث فعلها " أبو شدوق " أكثر من مرّة، فأصبح أخي من الرّضاعة رغم أنفي . ومع أنّي كنت أضع إصبعي في عينه إلا أنّه كان مصرا على الرّضاعة.

بلغت الفطام وكبرت، ودخلت المدرسة، وكان أمر زواجي هو هاجس أمّي . فتقول لي بين حين وحين، وهي تطبخ أو تغسل، أو تضع الطحين أو تخبز العجين: نفسي يا وليدي أشوف عيالك !. أمنية لم تتحقّق حيث لحقت بوالدي إلى الدار الآخرة وأنا ما زلت " عيّل " همّه الأكبر أن يقضي وقته في اللّعب مع العيال.

كم هو جميل أن تمارس طفولتك حتى سن العشرين، والأجمل أن تبقى طفلا طول حياتك . طفل يرى في أبسط الأشياء سعادة كبرى تجعله يقرقر ويملأ الدنيا ضحكات . لكن هناك من يريدك أن تكبر قبل أوانك لكي يرى المعذّبون من قبلك أولادك، ويستعجلونك في العذاب.

وها هي الأيّام واللّيالي تمضي سراعا، وإذا بي شاب تتمنّاه الغنادير، أو بالأصح يتمنّى الغنادير، لكن هيهات! فكل غندورة محجوزة في كرتونة لابن عمها أو ابن خالها . والحكاية في النهاية " قسمة ونصيب " . وهذا أخي من الرضاعة " معتوق " أبو شدوق، حالفه الحظ وركب القطار السّريع، وسارع به يزعق في متاهات درب طويل، حيث تزّوج بشدقاء مثله، وتركني في غرفة من الطّين أتوسد نعالي . لا بد وأنّه يتسدّح على شاطىء بحر الهوى، يضع الطعم لعروس البحر! هكذا كنت أفكر، وأنّ هناك من الأنس ما أنساه تذكار الأصحاب، فبقيت بعده ردحا من الزمن رهن العزوبيّة أستمع لحجاب بن نحيت " يا ويل من يجرحنّه " و " كلامك صح ولا تشرح ، ولا تضرب ولا تطرح " وكانت الأذن صاغية لكل اسطوانات " نجد فون ".

وفي إحدى الليالي أيقظني صوت الرّعد من كابوس، فأخذت أفكر في حالي ومآلي، وعقدت جلسة طارئة مع الفئران والصراصير، حضرها عفريت النوايا الحسنة المندوب السامي لإبليس . فالمهمّة سهلة الإغواء ولا تستدعي حضور فخامته . وبعد مشاورات ومطارحات رأيت أن الأمر أصعب من حلم العفريت في جنة الخلد . لكن العفريت لم ييأس، وأخذ يقلّب لي الأمور على كل وجه، ويأتيني من ذات اليمين وذات الشّمال، وزرع لي البحر " فقّوس " . وهذا معتوق أبو شدوق الذي رضع معي أصبح لديه سرب من العيال. ولم يبرح العفريت حتى تمّت الصّفقة، فكانت فرحته أكبر من فرحتي، ويا بخت من جمع رأسين بالحلال ! هكذا قال العفريت ، فكان رأس الغندورة هو مطلبي . ولم يمض وقت طويل حتى أقيمت الأفراح والليالي الملاح . وعلى صوت الزغاريد دخلت " القفص " وما زلت إلى اليوم رهن الاعتقال . وفي كل يوم أطلّ من نافذة القفص الذهبي أنظر إلى عالم العزوبيّة، وأنا في شوق إلى أنفاس الحريّة، فأتذكر تلك الأيام والليالي التي عشتها في بيت مخلّع الأبواب والنوافذ، تدخله الشمس والريح والفئران والحشرات من أي مكان شاءت.

هناك كنت أستلقي على قفاي أفكّر في عالمي، والشّحرورة " صباح " - خبيرة الزواج - تغنّي " المجوّز يرفع إيدو "! فرفعت يدي مستسلما لحياة غايتها " زوجة " ووسائلها " ديون "، بدءا من بنك التسليف، مرورا بأقساط السيارات، وانتهاء بالتوريط " التوريق " . وأنا الذي كنت أحلم بحياة سعيدة، وإذا بالسعادة سراب يلصف في قيعان جرداء، وإذا بالحياة تطلبنا المزيد من العناء، فأصبح البيت المستأجر مليئا بالأولاد، فأنستني الهموم ذكر " الغندورة " وأنستها ذكري.

إنّ العزوبية هي عالم الانشراح والانسداح والانبطاح، والحياة الهادئة البسيطة التي يكفي لسدّ رمقها بيضة مسلوقة . حياة تجعلك تتوسد نعليك وتنام دون أن يفغر في أذنيك صوت يطلب المستحيل حين تكون " طفران " . وفي زمن العزوبية كنت أستلقي على قفاي، أتفكّر في الأرض وما أقلت، والسماء وما أظلت ، وأنظر إلى الدنيا من أوسع أبوابها . واليوم أجدني مطروحا على سرير وثير صنع في الصين، أنام عليه منكفئا على وجهي، وكل ما حولي من بهارج الدنيا يشعرني بالندم .آه ما أحلى ذلك الإبريق الذي كساه السّخام وهو يخرخر آخر قطراته في علبة صلصة حين تنكسر الكأس، حتى حثالة الشاي كنت أمصها مستمتعا.

هناك كنت أصدح بالصّوت عاليا، وأنشر غسيلي وأغنّي عاريا من كل هموم الدنيا . فلا شيء أخاف عليه ولا شي أبكي عليه.

إنّ الهمّ الأكبر لأهلنا هو زواجنا ، زواجنا المبكّر المدمّر لأملنا في حياة سعيدة . فما أن تنشقّ قشرة الدنيا عن أحدنا حتى يتم البحث له عن قرين أو قرينة . وما هي إلا أسابيع أو شهور حتى يتوقف القطار في محطّة " الطلاق " . فإذا كان ابن العشرين في زمن مضى يقود جيشا، فهو في هذا الزمن لا يركن إليه في قيادة دجاجة . والخاسر الأكبر هي " الغندورة " التي حلمت في حياة سعيدة، وإذا بها بعد تجربة مريرة تقبل على مضض بذي الروماتيزم ( الشايب ) . وكل الحكاية أننا استسهلنا الحياة الزوجية وبنينا عروشها على أعمدة من الوهم.

إنّ الحياة جميلة ورائعة، لكن لا بد من التخطيط لها، وأن يكون الزواج آخر ما نفكر فيه، وأن تكون البنية التحتيّة هي همّنا الأكبر لبناء الصّرح السّعيد.

ونهاية السالفة : خذوا الحكمة من أفواه المتورطين !
أشوفكم على خير
بواسطة : شتيوي العطوي
 37  0