×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
الدكتور مسعد العطوي

قصة قصيرة: الراعية والعفاف
الدكتور مسعد العطوي


الراعية والعفاف


طال بي الزمن، فبحثت عنها حيثما أشارت لي أن هذا العام ستكون في واد الغضا وما حوله، تلك الأودية والجبال أعرفها عن مشاهدة وتجوال حولها، وقد بات فيها الشاعر جميل بن معمر، ومات فيها الشاعر الأمير دهمش بن وهاس الحسنيّ السليماني عام 567هـــ، وكأن واد الغضا مرصدا لموت الشعراء، فقد مات فيه مالك بن الريب، ولست أدري عن موقعه (وادي غضاه) لأنه كان عائدا من الجهاد في الشرق، وأمّا جميل فقد بات في وادي الغضا، وهو في طريقة لمصر بجنوب تبوك على مرحلة واحدة منها والأمير دهمش، فقد مات وهو في طريقه إلى الشام، فربما أن هذا هو المقصود ، وخشيت على الراعية أن تكون في ركب أولئك، وبعد جولة بين الجبال والأودية رأيتها في كهف ظليل ، فسلمت عليها ونهضت واقفة.
وقلت: ليس من عادتك القيام.
قالت: لقد طالت الغيبة، وخشيت عليك من موجاتك القلبية.
قلت: ما زال الود يداعبك، كنت أظن أن الاحاسيس قد تحجرت عندك.
قالت: هي قريبا من ذلك ، ولكن الإنسان يبقى إنسانا ما دام حيا.
قلت: إن حدسك صائباً، فقد أخذتني تلك الموجات القلبية كثيراً لأحضان الأطباء وأنين الوافدين المرضى في الطوارئ.
قالت: في ذلك عبرة، وأجر، وإنذار.
قلت: ومع تلك الحالات إنني أود لقاءك وأحاديثك ، وكانت لها دور في حياتي.
قالت: لا تثير نوازع الشيطان، وتذكرني بمراحل الشباب .
قلت: ليت الوقت كذلك فسأكون لكِ كجميل مع بثينة.
قالت: أظن أن ذكرياتك هذا هي التي دعتك لمتابعة الراعية.
قلت: أن الراعية هي مصدر إلهام لي، وللشعراء، وبناء الحب العذري.
قالت: إن مجاورة النزل ولقاء موارد المياه، والمروءة، والنخوة سهام للتواد والأمنيات ولقاءات الرعيان في المراعي وصحبتهم لأيام عديدة ينمي الثقة والمعرفة وتارة الحماية والإنقاذ للعابرين بحثا عن الضالة من المواشي أو الاستقبال لأي سبب.
قلت: هل كان هناك تخوف وخوف من الصعاليك والطيش إذاً.
قالت: لا خوف لأن الرهبة عالية، ولأن الفتاة قادرة على حماية نفسها، ولأن الأعراف القبلية صارمة وفاتكة، فلا تخشى الفتاة صحبة الرعاة، ولأن العفة والعفاف هو المهيمن على الفتيات والفتيان.
قلت: كيف يترسخ العفاف في هذه البيئة الجاهلية، والحرية الكاملة.
قالت: من القيم التي يتوارثها أبناء القبيلة ومن العاطفة الدينية.
قلت: كيف ينشأ الشباب والفتيات على استلهام الدين مع بعدهما عن أحضان التعليم؟
قالت: من الوعظ والحفظ: وقالت: إني أدركت وفود الوعاظ على القبائل ، وهناك عدد كبير من رجال الحي يحفظون القرآن ، بل هناك نساء حافظات ومنهن من تنذر حياتها للإرشاد في النزل مع ممارسة الحياة العملية وكثير منهم تكون قدوة مؤثرة في الفتيات.
قلت: وهل هناك حلقات: قالت: في البادية تحفظ الفتاة من أبيها أو أخواتها وأخوانها وأمّا في القرى، فقد كان الناس يصلون في المسجد، وتأتي النساء خلف الرجال: ويكون الوعظ والتحفيظ حتى مطلع الشمس، فالرجال يكّونوا حلقة، وهناك من يدرس الأطفال ، وهناك من تقوم بتحفيظ النساء.
قلت: أكثر هؤلاء يحفظون، ولكن هل يكتبون؟
قالت: أبداً، لا يعرفون الكتابة ولا القراءة إلا في المصحف.
قلت: هل المرأة تحرص على تحفيظ أولادها ؟
قالت: نعم، فقد يكون النزل شبه مدارس من الكتاتيب، فيجلبون الدعاة والمرشدين، ويقومون على التحفيظ والقراءة، وقرأه القرآن، وقليل من الأسر تعمل على تحفيظ أولادها القرآن كاملا، والأولاد يتعلمون التاريخ من المجالس الليلية التي تجذب الرجال الكبار، ويستمع النساء لها من وراء الساتر الدائم في منتصف بيت الشعر.
قلت: إني أدركت عائلة واحدة تحضرت وهم حفظوا القرآن مع مهنة الرعي وكان حارسا لمدرستنا.
وقلت: هل يكون الوعظ وتعليم القرآن في كل فصول العام في البادية؟
قالت: في فصل الشتاء ينشغل الناس برعاية مواشيهم، ويتفرقون في الشعاب والأودية وتصعب الحياة، وفي الربيع ينشغلون بجني المزروعات وجلب المئونة من المدن المجاورة ومحاولة الاستفادة من مكونات الألبان.
قلت: وكيف يكون أمر التحفيظ في سنين الجدب والقحط.
قالت: ربما ضارة نافعة، فإن القبائل تتدفق إلى المدن فيعملون هناك ويرون الفوارق، وكثير منهم يستوطن، وبعضهم يعود إلى البادية، وقد تعلم الضروريات.
قلت: إذن التدرج في الهجرة البشرية من الجزيرة العربية للعراق وسوريا وفلسطين والأردن، ومصر أمر واقع.
قالت: تجد أبناء القبيلة الواحدة من الحاضرة والبادية.
قلت: ما زال كثير من بلاد الشام ومصر والمدن في الجزيرة ينتسبون إلى القبائل العربية.
قالت: إن هذا التلاقح بين الحاضرة والبادية له أثره في بقاء كثير من القيم العربية.
قلت: هل تواصل الالتزام بالقيم العربية في البادية؟
قالت: نعم، العفة، والإيثار، والحياء، فالمرأة تجوب الأماكن ، ولم نسمع حادثة فجور أو سفاح أو حمل سفاح بين القبائل ربما كل حياتي المديدة سمعت عن حالتين فقط، وأمّا الإيثار، فإن المرأة تُدبر المؤنة ، فهي تطهي القليل، وتغذي أطفالها، وربما أكتفت بالرواسب في القدر أو الصحفة، والإيثار حتى بين الجيران، وقد عُرفت عائلات به، والإيثار يكون عند الأضياف، فإنهم يأكلون القليل، ثم ينهضون لتأتي مجموعة تلو مجموعة وكلهم على عجلة من أمرهم لا شبع ولا بشم، هذه لها ضوابط اجتماعية متعارف عليها.
بواسطة : الدكتور مسعد العطوي
 1  0