×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
إبراهيم علي السفياني

"وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون"
إبراهيم علي السفياني

"وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون"
مشاركة في تلمُّس طريق التمكين

إن الله عز وجل أنزل علينا القرآن لتدبره والعمل به ، وما زال القرآن قائماً على العباد بالحجة حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، فالقرآن معجزٌ كله لا تنقضي عجائبه، ولا تبلى معانيه، ولا تتقادم بلاغته .
وإنّ الأمة وهي تتلمّس طريق النصر في هذا الليل البهيم، لهي بأَمَسّ الحاجة لاكتشاف منهج النصر والتمْكين الذي ورد في النصوص الشرعية، ولعل الآية التي نحن بصدد الوقوف معها تساهم في جزء من هذا الأمر بإذن الله.
ففي إحدى ليلي رمضان الروحانية كنت أصلي خلف إمام شجي الصوت ، فقرأ من سورة يوسف قوله تعالى " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون"(يوسف/ 106)
جاءت هذه الآية في سياق الحديث عن المُعْرِضِين عن آيات الله والتحذير من العذاب الذي سوف يغشاهم بسبب ذلك.
وقد تسلل إلى ذهني وقتها استفهامُ عن هذا المعنى العجيب الوارد في الآية ، فكيف يجتمع في قومٍ (ما) الإيمان والشرك في ذات الوقت؟؟!!!
فهرعت إلى التفسير لأَصِلَ إلى فهم هذا المعنى، فكانت الإجابة على النحو التالي:
قال ابن الجوزي رحمه الله في تفسيره الذيع الصيت زاد المسير
(2/476):
"قوله تعالى: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم المشركون، ثم في معناها المتعلق بهم قولان: أحدهما: أنهم يؤمنون بأن الله خالقهم ورازقهم وهم يشركون به والثاني: أنها نزلت في تلبية مشركي العرب، كانوا يقولون: لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك، إِلا شريكاً هو لكْ، تملكه وما ملك، والثاني: أنهم النصارى، يؤمنون بأنه خالقهم ورازقهم، ومع ذلك يشركون به، والثالث: أنهم المنافقون، يؤمنون في الظاهر رئاء للناس، وهم في الباطن مشركون" انتهى بتصرف يسير.
وقال في (تفسير البغوي 4/283):
"{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} فَكَانَ مِنْ إِيمَانِهِمْ إِذَا سُئِلُوا: مَنْ خلق السموات وَالْأَرْضَ؟ قَالُوا: اللَّهُ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: مَنْ يُنْزِلُ الْقَطْرَ؟ قَالُوا: اللَّهُ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَيُشْرِكُونَ وَقَالَ عَطَاءٌ: هَذَا فِي الدُّعَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ نَسُوا رَبَّهُمْ فِي الرَّخَاءِ، فَإِذَا أَصَابَهُمُ الْبَلَاءُ أَخْلَصُوا فِي الدُّعَاءِ" انتهى بتصرف يسير.
وقال في(أنوار التنزيل للبيضاوي3/178):
ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ في إقرارهم بوجوده و خالقيته. إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ بعبادة غيره أو باتخاذ الأحبار أرباباً. ونسبة التبني إليه تعالى، أو القول بالنور والظلمة أو النظر إلى الأسباب ونحو ذلك. وقيل الآية في مشركي مكة، وقيل في المنافقين. وقيل في أهل الكتاب".
من خلال ما سبق من النقولات التفسيرية لهذه الآية القرآنية الكريمة يتبين أنّ الذم الرباني الوارد فيها يتعلق بأقوامٍ اتصفوا بصفةٍ غير حميدة بل هي متناقضة مع التوحيد الحقيقي الذي هو أعظم واجب على العباد، وهذه الصفة تتمثل في الإيمان الظاهري أو الإيمان الأجوف المُفرّغ من التسليم الكامل لله سبحانه وتعالى ، وهذه الصفة تنطبق في عصرنا الراهن على بعض الفئات من الناس من الذين يدّعون أنهم مؤمنون وموحدون ثم هم في واقعهم التوحيدي يصرفون نوعاً أو أكثر من عباداتهم القلبية أو الفعلية لغير الله ، فمثلاً عبادة الخوف أو الرجاء أو الاستعانة أو الرهبة أو الرغبة أو غيرها، فإننا نجد أولئك وقد توجهت قلوبهم وأفعالهم بتلك العبادات إلى بشرٍ أمثالهم، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فأصبحت قبلة قلوب أولئك لبشرٍ أمثالهم، قد يتزلفون إليهم لنيل شيءٍ من متاع الدنيا ،وقد يرهبونهم ويخافونهم أشد خوفاً من خالقهم سبحانه، وقد يرجون عندهم المَنَعة والحماية أكثر من القوي سبحانه، وقد يستغيثون بهم وينطرحون عند أقدامهم وقد نسوا من بيده ملكوت كل شيء.
تأمل معي أيها القارئ الكريم هذا الحديث ،عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وشِرْكه". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
تخيل أنّ الله سيتخلى عن أصحاب القلوب الذين رضوا بأن يكون غير الله أكثر مكاناً وحظاًّ منه سبحانه، ولا حول ولا قوة الا بالله.
وفي الحديث الآخر عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، يُنَادِي مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، والترمذي وغيرهما.
وهذا التّخلِّي الإلهي عن أولئك قد يكون تخلِّياً دنيوياًّ وذلك بتركهم يتعرضون لأصناف الذل والهوان فلا يهتمُّ بهم في أي أودية الدنيا هلكوا.
وقد يكون تخلّياً أخروياًّ وهذا أشد وأنكى ، فكيف بمن تخلى الله عنه في الدنيا والآخرة والله المستعان.
إنّ الأمة في هذا الوقت مُمَثلةً في أفرادها وجماعاتها، لابد لها وجوباً أن تراجع توحيدها وإخلاصها ونقاء قلوبها ومكانة الباري سبحانه فيها، لأنّ ذلك ولاشك طريقاً لا مراء فيه من طرق تحصيل النصر والخلاص من يومٍ عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
والله من وراء القصد

أخوكم / إبراهيم السفياني
محاضر بجامعة تبوك
24/9/1435هـ
بواسطة : إبراهيم علي السفياني
 1  0