×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
صدى تبوك

الفضيلة مرة أخرى!

هل كان أجدادنا - ونحن الذين نفتخر أشد الافتخار بجذورنا - غير حريصين على الفضيلة؟.

ورد هذا السؤال في رد أحد المعلقين - غريب الدار - على مقالي السابق (90% من الممرضات.. يا ساتر!)، وطلب مني المعلّق أن أجيب على هذا السؤال، ولأن سؤالا كهذا لا يمكن اختزاله في إجابة بسيطة، ها أنا أكتب إجابة بسيطة حول هذا السؤال العملاق الذي يمكن أن يُطرح في كتب بأكملها.

إن الفضيلة جزء من النسيج الإنساني الصحيح والقويم، وهي ركيزة مهمة في علاقة الإنسان بالإنسان، فالفضيلة شيء محمود جدا في هذه الحياة، وليست الفضيلة فقط في أن نكون محتشمين، أو نحافظ على شرفنا وكرامتنا، إنما تتجاوز هذا الأمر لتصل إلى الصدق، والأمانة، والوفاء، والأخلاق الجيدة، فحتى غير المسلمين يتبنون الفضيلة كخصلة إنسانية محببة، وكل إنسان في هذه الأرض يحتاج أن يعيش مع فضائله، ويسعد أن يكون إنسانا فاضلا، ويسعى لذلك دائما. فالفضيلة الإنسانية ليست حكرا على المسلمين فقط، إنما هي جزء من حياة البشر كافة على وجه هذه الأرض، وبالتالي لا يمكن أن يتخلى عنها أحد أيا كان دينه، وأيا كان عرقه، وأيا كان نسبه، وأيا كانت ثقافته وتنشئته الاجتماعية، لأنها خصلة الخير في داخل الكائن البشري التي يستمد منها بقاءه نظيفا في هذه الحياة إلى أن يموت.
فهل كان أجدادنا غير حريصين على الفضيلة؟ لا أعتقد أن أي إنسان في هذا الكوكب لا يحرص على الفضيلة، لكن المأزق الحقيقي الذي عاشه المجتمع السعودي منذ ظهور الصحوة قبل ثلاث عقود أو تزيد تقريبا في الهوس بالفضيلة، لدرجة أصبح مفهوم الفضيلة مشوّها، وأصبح هنالك شك لا مثيل له في أواسطنا، وأصبح الناس يدفعون لفعل الأشياء دفعا، وظهر مفهوم (حرّاس الفضيلة) فهذا المفهوم بحد ذاته وإن كان في ظاهره فكرة جميلة وتستحق الإشادة إلا أن من تبنى هذه الفكرة شوّهوا العلاقة الروحانية بين المسلم وربه، وبين المسلم والمسلم، ودخلوا في خصوصيات الناس باسم الدين، وحاولوا القفز على النيّات الجيدة باسم الدين، فالدين ليس هكذا إطلاقا، إن الدين المعاملة، والدين به من اليسر واللين ما جعل الله عز وجل يقول في كتابه الكريم مخاطبا النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).
لكن دعوني أطرح لكم مثالا بسيطا، ربما لا أكون قد لحقت عليه، لكن الكثير ممن أعمارهم تتجاوز الأربعين أو الخمسين أدركوا هذا المثال وعاشوه حقيقة، فقديما كانت القرى كلها مختلطة، وكانوا الناس يعيشون في سلام، وكان الجيران يكشفون على بعضهم البعض، ويجلسون مع بعضهم البعض، وكانوا يساعدون بعضهم أيضا، ويعرفون التفاصيل الدقيقة في حياة كل إنسان منهم، فلو سألنا أحدا ممن عاصر هذه المرحلة: هل كان هنالك أزمة أخلاقية حقيقية في ذلك الزمن؟ وهل كان الأهالي في ذلك الوقت يعانون من ريبة وشك مطلق؟ وهل هم فعلا كانوا غير أخلاقيين ولا يمتازون بالفضيلة؟ فستكون الإجابة على هذه الأسئلة: إن الأغلبية يتفقون بأن الفضيلة كانت ومازلت في نفوس أولئك الناس، وأنهم كانوا رغم اختلاطهم ببعضهم البعض إلا أنهم يتمتعون بحس أخلاقي وفضيلة لا مثيل لها، ولم يتخلوا عنها يوما، ولكن دعونا بالمقابل نسأل: الآن مع كل هذا العزل بين الرجل والمرأة، ومع كل الحرص الأخلاقي، والحراسة والهوس بالفضيلة في مجتمعنا: هل الناس الآن يتمتعون بنفس خصال أولئك الناس الفضلاء؟ وما نسبة الفضيلة والأخلاق بين هذا المجتمع والمجتمع قديما؟ رغم الفصل الواضح بين الجنسين في وقتنا الحالي؟.

أنا لا أدعو إلى الاختلاط إطلاقا، وأقول هذا الكلام لكي لا يأتي أحدهم ويقول بأن هذا الكاتب يدعو إلى الاختلاط، وإنه يريد أن يختلط النساء بالرجال، لكنني أحلل موقفين مختلفين تماما في مجتمع واحد، كان الفارق بين هذين الموقفين أكثر من ثلاثة عقود، وأحاول أن أطرح حول هذين الموقفين العديد من الأسئلة.
إن الزمن الفائت كان أخلاقيا بامتياز، وهو زمن فاضل أحسن مما نعيشه الآن رغم الفصل بين الجنسين، والسؤال هنا: ما الذي حدث؟ ومن المتسبب في تشوّه أخلاقنا رغم انفصالنا عن بعضنا البعض بالمطلق؟. الإجابة على سؤال كهذا تحتاج إلى جلسة طويلة جدا، ولا تحتاج إلى مقال نكتبه في عشر دقائق، إنما مسألة تحتاج إلى بحث مطوّل جدا، نرصد فيه الكثير من التغيرات في المجتمع، والكثير من التداعيات التي مر بها المجتمع والمنطقة كلها على مر ثلاثة عقود، المسألة ليست ببساطة في أن نحصرها على أحد دون أحد، لكنني أستطيع أن أؤكد بأن الصحوة، والحراسة المشددة على الفضيلة، والهوس بها، والطريقة التي تعامل بها هذا التفكير مع المجتمع (سببٌ من أسباب هذه اللخبطة الأخلاقية التي نعيش فيها، لكنها ليست السبب الوحيد إنما هنالك أسباب عدة، وهذا سبب منها).
إن آباءنا، وأجدادنا، وجذورنا عاشوا ومازالوا يعيشون، وهم فضلاء جدا، والفضيلة تسير في عروقهم من الوريد إلى الوريد، إنهم يتعاملون مع الحياة بفطرتهم السليمة، ويتعاملون مع الدين بفطرة لا تخالطها الشوائب، إنها الفطرة السليمة التي ينبغي على الإنسان أن يعيش بها، فالدين لا ينبغي أن يؤخذ بغلو وتطرف مبالغ فيه، ومن يتأمل في مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قال (اللهم امنحني إيمان العجائز)، سيعرف حتما ماذا يمكن أن يقدّمه الإيمان الفطري البسيط، ذلك الإيمان الذي لم تدخله الأيدلوجية، ولم تشوّهه النظريات السياسية، والتنظيمات الدينية، فنحن نتذكر كيف كان آباؤنا يدعوننا إلى الصلاة بفطرتهم، وكانوا حريصين على أداء الفرائض حبا في الدين، وكانوا يمارسون الدين بشكل عفوي دون أي هوس، ودون أي تعقيد.
إننا نحتاج أن نعيش مع ديننا بهذه الطريقة السهلة، وبدون أي عُقد، فكثير من الأفكار حاولت القفز على ديننا الإسلامي الحنيف، وهي في ظاهرها أشياء من صميم الإسلام، لكنها في داخلها وفي طريقة ممارستها أشياء بعيدة كل البعد عن الدين الصحيح، فحينما نأخذ هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كمثال، نجد أن فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكرة إسلامية خالصة، وهي جزء من ديننا الإسلامي، وواجبة على كل مسلم في هذه الأرض، لكننا عندما نتأمل ما يحصل تجاه هذه الشعيرة الإسلامية، نجد كثيرا من الممارسات التي تُمارس تحت هذه الشعيرة الإسلامية غير إنسانية تتنافى مع كثير من قيم الإسلام السمح، فهناك الكثير من الشك، وإساءة الظن بالناس، والتدخل في خصوصياتهم، ومحاولة إرغام الناس بالقوة على ممارسة الدين الإسلامي، بلا لين، وبعيدا عن المعاملة الحسنة، فأنا لا أنكر أن مسألة الحسبة جزء من ديننا الإسلامي، لكن الآلية التي تدار بها في كثير من الممارسة خاطئة ولا تمت إلى الإسلام بصلة، ربما لأن الكثير ممن يعملون في هذا الجهاز يفتقرون للتعليم، ولا يملكون الثقافة الدينية والإنسانية بشكل جيد.
فمثله تماما مع حصل مع الفضيلة في مجتمعنا، فالفضيلة، وممارسة الشعائر الدينية أمر حسن جدا، وأمر في غاية الإنسانية والنبل، والتشريع الرباني، إلا أن الممارسة التي تأمر الناس بإقامة هذه الأشياء خاطئة ومشوّهة أحيانا، وربما لتحول الخطاب الإسلامي إلى خطاب سياسي في كثير من الأحيان دور في ذلك.
ينبغي على المسلم في تصوري أن يتعامل مع دينه مثلما كنا نرى جداتنا، وأجدادنا، يتعامل معه بتلك الطريقة السهلة، وبتلك الطريقة الخالية من العُقد والمؤامرات، فالدين الإسلامي دين سمح يجب علينا أن نتعلّم منه السماحة.

علوان السهيمي

Alwan_mohd@hotmail.com
http://twitter.com/#!/alwansu




بواسطة : صدى تبوك
 9  0