×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
شتيوي العطوي

"الفكراء" والفقراء.. وصوت الضمير!
شتيوي العطوي

يقول " الفكراء" المتخمون في الأرض: الفقر ليس عيبا!. وقد يقود الفقر إلى العيب، ويجزم الفقير بأن الفقر جريمة ! وكلما زاد عدد الأغنياء واحدا، تضاعف عدد الفقراء.

ويقول الفقراء: الأكفان ليست لها جيوب! ويذكّرون حراميّة العالم بأن جهنّم الحمرا ليس فيها مراوح!

وفي مشهد التجويع والفقر المتعمّد في هذا العالم بإشراف "الامم المتحدة"، يبدو في الصورة كيس أرز وعلبة زيت" إغاثة"، والبائس الفقير يقف بجوارها مبتسما، حتى وإن كان بلا أسنان!. والجميل أن الأرز يمكن بلعه بدون قواطع أو أضراس. يبتسم البائس من أجل الصورة التي يعتقد "الفكراء" أنها ستمحو عنه دمغة الفقر.

قد يحظى الفقير بشيء من عطف "الفكراء" لكنه لن يحظى باحترامهم، قد يعطونه شيئا من الفتات من غير أن يسألوا عن قصته ( القضيّة )، تلك القصة التي قد تحوله من فقير متعفف إلى متسوّل في الشوارع والأزقة، وربما تجاوز حد فقره لأن يصبح لصا، ثم إلى مجرم يرتكب جريمة من أجل لقمة عيش.

وهنا موقف كاد العوز أن يجعل صاحبه لصا، موقف قصّه عليّ أحد الشباب فقال: خرجت ذات يوم إلى إحدى النواحي بحثا عن عمل، وقد ذكروا لي شركة في تلك الناحية، فوجدت المسئول فيها "عربي بأخلاق صهيونية" فلم يكن حظي في ذلك اليوم بأسعد من سالف الأيام، فوجدت نفسي أقف على مفترق طرق خارج تلك البلدة، على أمل أن أجد من يحسن بي ويوصلني أهلي بالمجان، ولم يك معي ساعتها غير ريالين. فوقفت جانب الطريق أشير للسيارات، فلم يتوقف أحد. وبعد حين رأيت من بعيد " وايت صرف صحي " فقلت عسى أن ينقلني لأقرب محطة، فأشرت إليه، فلم يتوقف، فأدركت أني سأبيت الليلة في العراء، وقد أشرفت الشمس على المغيب، وكنت أنظر حولي إلى مكان أوي إليه. وبينما كنت كذلك، إذ بسيارة من نوع " شبح " قادمة نحوي، فاستحييت أن أرفع يدي بالإشارة، إذ لم يحفل بي سائق " الوايت "! وحين تجاوزتني بمسافة بعيدة، توقّفت السيارة، ثم رجعت نحوي، فسألني من بجوار السائق وكان رجلا كبيرا في السن: وين رايح يا ولدي؟ فقلت له: إلى تبوك ! فقال: اركب، نحن في طريقنا إلى عمّان !فركبت وكان الرجل " حضرمي " وولده يسوق به . كنت صامتا أفكر في أحوالي، والحديث بين الرجل وولده، فنظرت وإذا بحقيبة صغيرة بين الراكب والسائق تبدو منها رزمة من الأوراق النقديّة تعلوها فئة الخمسمائة ريال، وكانت قريبة من متناول يدي، فوسوست لي نفسي أن أسحب- فقط - ورقة خمسمائة ريال أسد بها بعضا من فاقتي. لكن وفي كل مرة أهمّ بها يأتيني صوت الضمير وصوت أمي العجوز.

محاولات عديدة كلها باءت بالفشل أمام يقظة الضمير، وكيف أسرق من أحسنوا بي . وعند محطة بنزين توقفنا، وكان الليل قد أرخى ستائره، فنزل الرجل وولده إلى السوبر ماركت وبقيت أنا في السيارة، فكانت فرصة الشيطان الأخيرة في أن أسرق، ليس الخمسمائة ريال، بل الحقيبة بكاملها، وأهرب في عتمة الليل، وكانت فرصتي، لكن ضميري ما يزال حيّا، فصرفت النظر عن الحقيبة. وكم شعرت بالخزي والعار في داخلي حين عاد الرجل ذو الشيبة وناولني كيسا فيه ماء وعصيرا وبسكويت، وكنت سعيدا أني لم أجرح هذا المعروف. فمشينا حتى وصلنا تبوك، فنزلت، وقد عرضت عليهما العزومة وأنا غير صادق، لأني لا أملك شيئا مع أنهما يستحقان التكريم، فاعتذرا، ولوّحت لهما بالوداع، فانطلاقا، وانطلقت أنا إلى إحدى المقاهي لعلي أجد أحدا من رفاقي هناك. وبينما كنت في طريقي إلى المقهى لمحت أمامي ورقة ملفوفة مجعلكة تهزّها الريح، فضربتها بطرف قدمي، فشدّني منظرها، فرفعتها وإذا هي " خمسمائة ريال " فقلت: لا بد وأنه رزق ساقه الله لي تعويضا عن تلك التي عفّ عنها ضميري.

هناك وفي هذا العالم من يدفع الإنسان الشريف لأن يصبح لصا، وهناك من يدفعه أن يجاور برميل القمامة بحثا عن خردة تكون ثمنا للقمة عيش كريمة. وهناك من يجاور برميل القمامة ليأكل منه في عالم يشكو من التخمة والسمنة.

وهنا مشهد غاب عنه السادة "الفكراء" حين تكون وجبة الغداء طازجة من حاوية القمامة، فكم آلمني ذلك المشهد وصاحبه يخرج كيسا من بقايا طعام ليلتهمه على الرصيف ، ذلك الإنسان الذي لم يحفل به حضرات الفكراء وتركوه هائما حتى وصل به الأمر إلى هذه الحال. لم يسأل أحد عن قصته، وأنه كان بطلا في مأساة.

ذهبت إليه وناولته شيئا مما جادت به النفس، فقام يشكرني، وحين هممت بالانصراف قال لي معاتبا: لماذا لم تسلّم عليّ ! ( يقصد لم أصافحه ) فعانقته تكفيرا عن عدم مصافحتي له. ثم قال لي: انتظر! سأعزف لك أغنية، وأخذ عودين من خشب كحال الكمنجة، وشرع يغني والناس تنظر إلينا.

كان المشهد وقصة ذلك الإنسان يصلح أن يكون مشروع " رواية " لأحد السادة الفكراء الروائيين، يبيع منها ألآف النسخ ويقبض عشرات الآلآف أو مئات الآلآف، دون أن يحصل البطل على مليم واحد..لكن البطل عاش بعيدا عن أنظار الفكراء، واتخذ له بيتا في خربة كانت سكنا لعمال شركة، ليموت هناك دون وسادة ودون غطاء ليسدل الستار على رحلة مأساة دامت عشرين سنة.

قد يقبل الفقير الفقر بصدر رحب، وقد تجد بعض المعدمين يضحك للحياة فتحسبه مليونير، لكنه لا يقبل أن تهان إنسانيته كما حدث لذلك المسكين حين ناولته إحدى العاملات في الأمم المتحدة " تفاحة "،فمد يده لتناولها، لكنها أحجمت، ونادت أحد المصورين ليصور المشهد الإنساني، فجاء المصور، فمدّت التفاحة مرة أخرى، لكن ذلك المسكين رفض أن يأخذها، حيث شعر بأن العمل لم يعد إنسانيا، بل هو للدعاية والإعلان التي يمارسها حضرات السادة الفكراء الذين ينهبون قدور الفقراء ويتصدقون عليهم ببيضة، وقد ينهبون "وطن "ويمنّون على المساكين من أهله بخيمة وبطّانية وعلبة سردين!
بواسطة : شتيوي العطوي
 8  0