×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
الدكتور مسعد العطوي

الراعية والمجاعة
الدكتور مسعد العطوي

الراعية والمجاعة

لم أطل البحث عن الراعية ، فسمعت ثغاء شوبتها في قمة الجبال النائية عن الديار ، فصعدت إليها في ساعات وإرهاق ، فسلمت وجلست تعباً مرهقاً.
فقالت: كيف يرهقك صعود جبل ، وأنا أصعده بعد هذا العمر؟
قلت: الممارسة ، وقلة الأكل ، وندرة الأمراض كلها من صفات مستوطني الجبال.
قالت: صدقت ، كأنك صاحب تجربة.
قلت: في الزمان الأول.
قلت: إنكِ في مكان مرتفع ، فكيف أُحضر الطعام لي ، فإني إن انحدرت فلن أستطيع الصعود.
قالت: الجود أن تجود بالموجود ، وبعد فترة قدمت لي إقطا عليه (الرغل) وهو حمض تأكله الأبل.
وقلت لها: أعرفه ويسمى (ثور).
قالت: إنه ثور لبنيّ صغير إلى جانب الثور الكبير ، فأعطتني واحدة.
فقلت: هل من مزيد؟
قالت: لا مزيد أنه قوتي وغذائي ليوم كامل.
قلت: هذا من أثر الزهد أيتها العابدة.
قالت: من القناعة وأثر الفاقة ، وتكرار المجاعات.
قلت: أنت طوفتِ في الجزيرة ذات اليمين وذات الشمال ، فهل عايشتي بعض المجاعات في هذه الفيافي الشاسعة.
قالت: أقرب واحدة قبل 80 عاماً كنت أتنقل بشويهاتي في التلاع النائية أحصد لها من أطراف النبات بعد إنقطاع المطر بثلاثة أعوام وذات يوم وأنا أقترب من آبار كي أسقي شويهات وأملا قربتي ، فإذا امرأة تقترب مني ومعها طفل لا يتجاوز عشر سنوات.
وقالت لي: بصوت خافت يضطرب: النحيب والأنين : هذا الطفل يرعي معك ، ثم ولت ولم تحاورني وتسألني عن الغذاء له ولا لي.
فسألت الطفل: فقال: مات أبي وأخواني ولست أدري: فمكث معي الطفل أشهر معدودات ، فكان الغذاء من جذوع الشجر ومخلفات الحيوانات النافقة أمّا الكساء فكان من أعقاب بيوت الشعر ، وأخذ الطفل يتناقص وتبدو عظامه وضلوعه.
قلت: فكيف ينام هذا الطفل؟
قالت: أحفر له بجانب شجرة فينطوي فيها.
قلت: ثم ما حدث له؟
قالت: ذات يوم لم يستطع المسير ، فأخذ يجلس تارة ويمشي فزعاً خشية الوحدة وذئابها ، فإذا مطية تقبل حوله فلما أقتربت منه نزل صاحبها ، وأخذ كسرت خبزاً وأعطاها الطفل واستخرج قماشاً وخاطه خياطة سريعة وهو واقف وفتح أعلاه وألبسه الطفل ، وإذا به عمه وعرض علي عروضا ولكني آثرت الطفل بها ، وقد تمرست على المعاناة وبدأت الحياة تدب عند رجوع القوافل من الشام بعد فناء كثير من البشر والشجر والإبل والغنم وأختفت الواحات والنخيل والحماط (التين) وكان منظر القوافل ذات الأحمال الثقيلة يبشر بحياة جديدة ، ثم حين تفترق إلي الشعاب إلي مضارب أهاليهم ، وهناك يمتزج الفرح بالحزن من شبع فرح ومن فقد من أولاده وأهله أو والديه فهو حزين شديد الحزن ، وذات يوم وأنا أسير في الشعاب وإذا ببيت شعر مائلة أطرافه فاقتربت منه وإذا ثلاثة أحدهما فيه رمق من الحياة ، أمّا الآخرين فقد ماتا ، وإذا بالأم تقبل في عجله ، فتسقط على الطفل الأقرب لها ، فإذا به ميت ، وعلى الثاني فإذا به قد سلم روحه ، وأخذت تقلب الثالث فمات بين يديها ، فأخذت تشهق ، ثم ماتت ، وحملت الحزن والدموع ، ثم فكرت كيف أحفر قبورهم وأدفنهم وأنا متهالكة ، وإذا بصخرة كبيرة فأخذت أجمع الحجارة حولها ، ثم نقلتهم إليها وبنيت حائطا متهالكا حولهم.
قلت: بما كفنتيهم ؟
قالت: إن الأقمشة نادرة حتي للكساء والستر فكيف للكفن ألا تعلم إن المرأة والرجل تكتفي بثوب واحد طوال السنة ؛ كما قال الجزار:
إنَّ فصل الشتاء منذ نحا ،،، جسمي أبدت ثيابَهُ الأعضَاءُ
فيه عظمى المبرَّدُ إذ عَزَّ ,،، الكسائيُّ واحتمَى الفَرَّاءُ
، وإما غطاء الرأس فإن الشباب يصنعونه من المنسوجات وكذلك (الصدرية) ، أمّا الأغطية الليلية فتكون تارة بكسر بيت الشعر مما تدلى منه ، وأمّا في السفر أو الرعي فإنه يحفر بجانب الشجرة ويدفئه بالملة هذا شتاءً ، وتارة يتعرى من ثوبه ثم يصطلي على النار ثم يتدثر بثوبه وينام.
قالت: هذه حوادث ومناظر تجدد الإيمان والخشوع والخشية والاستسلام لقضاء الله وقدره.
قلت: أعانك الله وكتب لكِ الأجر والمثوبة ، ثم أردفتُ: لكنها مأساة للإنسان والحيوان.
قالت: يا بني : كم رأيت ، وكم فزعت ، وكم داهمتني أسباب الموت من كل جانب ومع ذلك لم أمت حتى هذه اللحظة ، وقد مات حولي فرق كثيرة فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين ، أمّا الآن فأكاد أفقد الخوف والفزع إلا من نار الآخرة.
قلت: تمنيتُ أنكِ قادرة على كتابة سيرتك الذاتية ، فستكون مناط دراسات جامعية.

بقلم الدكتور
مسعد عيد العطوي
بواسطة : الدكتور مسعد العطوي
 6  0