×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
الدكتور مسعد العطوي

الراعية والعقيلات
الدكتور مسعد العطوي

كنت قريبا من الراعية المسنة التي آثرت الغربة ، فبت بعد المحادثة بالأمس قريبا منها ، فلما أفطرت دلفت إليها ، فوجدتها في خميلة من الأشجار تنبش لغنيماتها من خشاش الأرض حول الرتم ، والرمث ، والطلح.
فقلت لها: اليوم أراك راعية مجتهدة.

قالت: كل راع مسئول عن رعيته ، وأنا خشيت على أغنامي من الهلاك .
قلت: ألم تجربي النجعة ؟
قالت: إنها تاريخ هذه البلاد سيول بشرية تتدفق منها ، وقد نجعت مع عشيرتي من ديار نجد إلى العراق والشام في هجرات متباعدة.
قلت: أطال الله عمرك في الخير.
قالت: لولا الخير لما رضيت بدعائك.
قلت: أريد ان تحدثيني عن إحدى هجراتك بعد أن هلك الأهل والولد والعشيرة .
قالت: تمرست على الحياة المنفردة ، ولا رغبة لي في أن أجوب الديار إلا عند الضرورة .
قلت: كم مرة هاجرتي للشام ؟
قالت: مرات كثيرة على مرّ السنين .
قلت: هل هناك هجرات قبيلة أو لإحدى البلدات ما زالت عالقة في الذاكرة ؟
قالت: ذكرتني بهجرة كلها رجال ، فقد افتقدتُ غنيماتي ومن الواجب عليّ أن لا أُلقي بنفسي في التهلكة ، لذا قررت ان أتبع أي قافلة ، ثم رأيت قافلة كثيرة العدد ، تسوق الإبل ، والأغنام ، فاقتربت منها وسرتُ خلفهم أبتعد عنهم تارة لأنني لم أر نساء ، وكانت مسيرة القافلة بطيئة كي لا تهلك الدواب .
قلت: وهل معكِ زاد لتلك الرحلة ؟
قالت: من الشجر وبعض الزواحف .
قلت: ألم تستفيدي من القافلة ؟
قالت: لم أحاول ، ولكن ذات يوم أخذت التقط من الشجر وآكل منها ، فإذا برجل يتنحنح وإذا هو يقترب مني .
قلت: من أنت ؟
قال: لك الأمان ، ولكنك يأمة الله صحبتينا عن بعد ، وتأكلين من الشجر فمن أنت وما حكايتك ؟
قالت: هكذا عيشتي الدائمة ؛ فإذا هو يخرج من محفظته كسرة خبزا ويعطيني إياها ، فعاد إلى ربعه ولم يثر حولي أي إثارة وأخذوا يسيرون وأنا اتبع خطاهم ، وكان الرجل يتعهدني بالماء والأكل .
وقلت له: لا تمدني إلا بالخبز ولا تأتي به إلا مرة واحدة في الأسبوع ، لكن ذات يوم أحسست بحركة عند القافلة غير معهودة إذا انتشر من الرجال ما يحيط بالقافلة وجاءني الرجل .
فقال: الأمر خطير ولا بدّ أن تنضمي للقافلة حتى نأمن على حياتك .
قالت: لا خوف علي .
قال: إنك جارة ورفيقة سفر ، فلا بدّ من انضمامك ، ولكِ الأمان .
قالت: لا أملك ما أخشى عليه حتى دمي وعرضي ، فكل الذين يقتربون مني يبتعدون عني فلا جمال يغري ولا مال يثري .
قال الرجل: لا بدّ ولا رأيا لك في ذلك ، فاقتربت منهم ، فلما أقترب الليل جمعوا الحطب وتحلقوا في مجموعات صغيرة ، وكل مجموعة تعد أكلها منفردة وقليل منهم من يأكل منفردا وكانوا يجمعون أبلهم مبكرا قبل المغرب وكانوا يحرسونها بإشعال النيران في كل جهة ويطوف الرجال من كل جانب، وكنت اسمع خلافاتهم وطرائفهم وأرى مصارعتهم ، وقد كان يفدون أنفسهم ويتآزرون ويشترون وهم تارة في خوف وخشية وتارة في أمن ، وتارة يفتقدون الماء حتى يشارفون هم وإبلهم في الهلاك وكانت خبرتهم بمقار المياه كبيرة ودقيقة فيستعينون بها.
ثم أردفت وقالت: وفي ذات ليلة أخذت الذئاب تتعاوى حتى تكاثرت ثم اقتربت وإذا بزئير الوحوش تتجاوب معها ، ونحن في مفازة وفيها واد ذو غابة من الشجر الكثيف ، فأخذ الرجال يتحدثون كيف يواجهون المشكلة وما معهم إلا النبال ، فأشعلوا النيران والسهام والسيوف ويدورون حول الإبل وهكذا تلك الليلة المخيفة حتى أصبح الصباح فإذا آثار السباع تحيط بالقافلة من كل مكان .
قلت: هذا قبل أنتشار البنادق.
قالت: لم يمض عشرات السنين حتى ظهرت بندق يسمونها (التيزي) .
قلت: أليس هناك مدائن وواحات على طريقكم لتتزودن منها.
قالت: بلا لقد أتينا طبرجل ، ولكنهم لم يجدوا منها مواد غذائية وأخذتنا الطرق حتى اقتربنا من البلقاء .
قالت: ثم مكثنا أياما كي تستعيد الإبل حالها وفي تلك الليالي أخذ القوم يتسامرون ويتحدثون عن الأنساب وأذهلني ان الرجل الذي حفني برعايته أنه من أحفادي وترقبت نور الصباح لأرى معالمه ، وانتظرت قدومه حتى أقبل وجلس يحادثني عن حالتي في السفر وانا أحدق به وأرى أشكال أسرتي في قسماته وسالت الدموع وابتل الخمار ، وأخذت أشهق شهيقاً متتابعا حتى كادت نفسي تخرج من جسدي ، وهو يذهل ويرتجف ويعتذر ويقسم بالله أن لي الأمان.
فقالت له: لا عليك الأمر ليس كذلك ، ثم ابتعدت عنه ولم أخبره خشية أن يصير علىَ رعايتي فاستراب الرجل وقلل من المجيء إلا مع نفر آخر.
قلت: الله أكبر ، الله القادر المقدر الحكيم.
قالت نعم: ثم تفرق القوم في الشام وأنا ملت إلى سفح جبل فيه كهوف لأستقر فيه.
بواسطة : الدكتور مسعد العطوي
 7  0