×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
فارس الغنامي

"أشواق".. نجمة تحتضن السماء!
فارس الغنامي

‏كثيرًا مَا تروق لي الكتابة في طَي العُزلة المُسْتَطَابة، تلك الحالة المترعة بصفحات حافلة بالذكريات، وفناءات من هذه الحياة المتعبة تارة، والكريمة أحيانًا، والشاظفة في أحيانٍ أُخرى. كأي ابن قريةٍ يتربى أجيالُهَا كإخوة لم تربطهم عروق الدم، وإنما مساحات ضيقة في حارة بسيطةٍ لا تعترف بمحدودية السر، وإنما بحدود القرية فقط، أقصى الطموحات والأحلام لعبة جديدة يسيل منها لعاب العين توقًا لأن تحتضنها كفا يدي.
‏يا لسطوة هذا الشعور حين يشن معركة داخلية بكائنٍ سَبعِ السنين، يغتال حواسه مجتمعة من أثر مجسم غريب أَلْهَب أعماقه!
‏بصغره تَأَرجَت الرغبة من حنايا أعماقي أمام تلك اللعبة الفريدة؛ محدثة بذلك تصعيدًا داخليًّا، يسمَّى بعملية ارتقاء ''قانون الجذب'' بيني وبين ذلك الشكل الغريب والمغري بحيازتها.
‏حين أكون متشبعا بثورة التشبث الجامح بعينٍ تَأَبشتْ بشغف امتلاكها بفطيم عهد، بهذه الحياة التي لا تحرم طفلًا ولا كهلًا من فَيّاض قسوتها.

‏يا لغرابة مضارب القرية المترعة برجولة قبل نضوجها بجسد أطفالها!
‏جانب طفولي مأنوس يهذي ويفشي دواخل هذا الكائن لهذا الورق، لا أدري أهي العزلة تنظم ملحمة البدايات، أم ورق العزلة له مستقبلات حسية وطرق ملتوية تخضع صعلوك الكتابة، أو ربما تبغ العزلة بالغ النشوة يطَفِقَنا نهذي دون قيود ودون رقيب؟ فالكتابة هي ترامادول العزلة حين يشن الحنين عاصفته الاستوائية الممطرة بدَيْجُور الوَجْد لتلك الأيام السالفة.
‏***

‏أحاول عبثًا المُضي بطرائق أشبه بمتاهات مضنية جدرانها تفوح منها أريجًا عطريًّا يُصيبني بالاختناق، وعدة أمكنة تحملها هذه الصور لا أدرى كيف لهذه الصور الورقية أن تحمل كل هذه المشاعر المتدفقة ذات الحركة المتجمدة والوجوه الرأسية.

‏كيف لهذه الورقة أن تضرم بدواخلنا حرائق...
‏وتحرك أقدامنا نحو محطات معدمة ذات جدران متشققة تكاد تنهار من شدة كلاسيكيتها...
‏أيام تمر من أعمارنا وتينع صفحات ربيعها...

‏***

‏لَيَاح الصبح تحلق الطيور بحضن السماء، وتستمر معلنة بذلك مراسم الحفاوة بخروج ذلك الطفل المسجور بالبراءة، والذي قد انْضَوَى بالمحطة الثانية من عمر فتى القرية، التي احتضنته بكل تفاصيلها من شوارعها وشخوصها المسهدة إلى مكوثها في ذاكرته المكونة لشخصيته.

‏***
‏ صفحات المراهقة والحب، وأهازيج الأشرطة الشعبية، واِنْتِفَاضَة النزعة الذكورية، وأروقة المدرسة، طاولات الدراسة، مغامرات سن الفتوة
‏***
‏صور عابرة نلتقطها في مراتع البهجة والسرور وننقب عن أدق تفاصيلها بحرقة ولهفة جامحة
‏أن نعيشها من جديد وهنا نتشبث بمركب العودة لمراسيها؛ فيصفعنا الواقع بأقصى عباراته المحملة بنقاط التحول المجسمة كأعقاب سجائر تلسع صدورنا من شدة قسوتها
‏***
‏في خضم هذه العاصفة ترتعد أجسادنا المعلقة بالذكريات الملبدة، بأرقى منحنيات العمر، وتزداد الشحنات السالبة، وتتصاعد حدتها؛ حتى تنساب دموعنا من ثورة المشاهد المحمَّلة بكرز الحنين المر ولوعة أيام السطور الأولى حين نستعيد مواسم عشناها بأغصانها الخضر
‏***
‏نقف عاجزين عند ذروة نسيانها هنا نَشَجن ونشعل سيجار الوحدة فتصافح أيدينا معلقات هذا المراهق المُفعم بالغبطة في أول يوم دراسي وفي آخر مراحل ''الكفاءة'' حين شاهد نفسه يتفنن 'بتلثيمة مضارب البداوة' بصورته المنعكسة على زجاج سيارته المتضخمة برائحة العلف ونَدْيان الزجاج من شدة الشتاء. لا أدري فعلًا ما سبب انجذابي لصوت ''خالد عبد الرحمن''، يا لهذا الصوت البديع الذي يضْرمُ في قلوبنا الخامدة فتيل الحب ويوقد ناره!
‏مع انْصِرام سيجارة الارْتِقَاب المتزامنة مع إِسْخان السيارة تَأَهَّبَ ذلك المراهق، وهو يسترق النظر كل دقيقة لصورته بمرآة سيارته الداخلية، وعينان يزدادان إعجابا بنفسه بظهور شعيرات فوق ''براطمه'' تخاذَنُه ابتسامةُ الاستحياء وفرحة ''الرجولة الناضرة''، ذلك ''السربوت الحقير'' يجول أروقة الحي يوميا يصطحب رفاقه معه للمدرسة. شارع القرية التجاري تنشط حركته وهو مكتظ بطلبة المدرسة، وكلهم يتجمعون أمام ''بوفيه'' القرية، والجميل ذلك الباص القديم الذي يصطحب الصغار من الهجر القريبة من قريتنا وهم يلوحون ولسانهم ينَبِسُ: ''عم مرزوق ودينا الدكان قبل الطابور''.

‏***
‏نعود إلى مغامرات ''فتية الحارة''، كنا نتناول الكندوتشات'' وهذه الكلمة اسْتَلْهَمتها من هِرْشَفيت الزمان الخالد، أذكر أن في تلك المرحلة العمرية أَقْذَعَتها الهواتف ذات الكاميرا في أول غزو حداثي لقريتنا البسيطة، والتي تَأَسَّنَت بدخول أبراج التغطية للهواتف النقالة، وأسهمت كثيرًا بتقوِيض ما تؤسسه البيئة القروية في صغارها.
‏من تلك المواقف ما جَاشَت بها صفحاتي صباح أول ''هاتف يصافح يدي''، كان يطلق عليه ''الدمعة'' حين اتصل الوالد ''طيب الله ثراه'' يوصيني بنقل ''مكعبات العلف'' عصرًا إلى ''العزبة''، ومع انْقِضَاء المكالمة وضعت الهاتف اللعين بكوب الشاي بمحاذاة ''القير'' يا نهار أسود'' دون إدراك مني أنا هناك أكواب لاتزال بموضعها، ولم أكتشف ذلك إلا عندما وصلنا بالقرب من المدرسة، وكنت أستغرب من ''فتية السوء'' الضحك غير المعهود؛ فأغلبهم لا يبتسم صباحًا وعيونهم محمرة نتيجة السهر وترقب نهاية ''غليص ولد رماح''

‏***
‏معالم هذا الضحك الهستيري تعالت عند اكتشافي أن هاتفي أصبح "شاي بحليب'' أذكر في هذه المرحلة انتشار الوعظ الديني بالمدارس عن طريق استضافة مشايخ مدة ساعتين ينصحوننا بالصلاة... إلخ. ولو لم يكن هذا الشيخ الجليل يضيف التوابل الكوميدية لنام الطلبة من رتابة المواضيع المفتقرة للحركة وإثارة الجمهور في آخر ندوة المناصحة لجيلنا الذي يواكب بداية هواتف الكاميرا، ومع أني كنت مثل المنصتين إلا أني شعرت بالمتاهة المرتبطة بوصول الهدف والسلوك، والذي كان يحاول هذا الشيخ الجليل زرعه فينَا.
‏ أذكر بأن هذه الاستضافات لم يكن لها سطوة التأثير ولا أدري لماذا، فأثناء الندوة الدينية تُوزع ورقات صغيرة علينا أن نكتب فيها أسئلة لهذا الشيخ الجليل. طبعا ''فتية السوء'' وغيرهم أتحفوا هذا الشيخ الجليل ''بأسئلتهم التي تصنف حسب إخواننا ''المصريين'' ''رغي أونطة ملوش لزمة''، وبلهجة أخرى أقرب (طقطقة على الشيخ الجليل). أذكر أن ضمن ورقات الأسئلة كتب أحدهم سؤالا مفاده:
‏(شيخ ليه مديرنا يبيعنا نص رغيف بالفسحة)، ومن تلك الورقات التي أتحفنا بها الشيخ
‏(يا شيخ وش حكم سماع ''مخاوي الليل'')
‏(يا شيخ وش علاج جريح الحب ).
‏***
‏ربما لم تكن هذه الندوة الدينية تعني لي شيئًا
‏تناولت قلمي من رفيقي بجانبي والذي كتب به على الورقة الموزعة علينا، وكتبت على ساعد يدي بقلم الحبر: (يا حسرة على النظرة) وسهمًا قاصِلًا اخترق قلبًا رسمته.
‏***
‏ مِن مَدارج الذكريات
‏تشربت وسائدنا ملح الحنين
‏ومن لسعاته اللذيذة ارتمينا ونمنا....


للكاتب / فارس الغنامي
بواسطة : فارس الغنامي
 2  0