×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
الدكتور مسعد العطوي

الراعية والجدري
الدكتور مسعد العطوي

الــراعية و الـــــــجدري
وجدت الراعية الغريبة بعد لأيٍ في المضحى في سفح جبل في أيام الشتاء.
فقلت لها : عساكِ بخير ؛ وسلمتِ من الانفلونزا.
قالت: الحمد لله ، وهذا مرض أخف من غيره .
فقلت : أشد منه الجدري ، ولكنه لا يظهر عليك أثرا له ، فابتسمت.
وقالت : يا بني ، لا يستطيع أحد أن يرى معالم الجدري بي لمرِّ السنين ، وكر الأيام ، فقد أصابني الجدري والحصبة حتى الطاعون ، كلها أمراض اجتاحت البلاد .
قلت : أظن أنها حفرت مآسي في ذاكرتك.
قالت : وجسمي وأنقضَّت على أهلي ، فمات بعضهم من الطاعون ، وهو لا يُمهل كثيراً ، وقد حصد سبعة عشر من أبنائي وأحفادي.
فقلت: عظم الله أجرك ، ورحمهم الله.
فقالت: إن عزائي أنهم راكعون ساجدون مكابدون، وكرماء ؛ فما عند الله خير لهم.
فقلت: طوبى للغرباء أمثالهم .
ثم قلت: كيف تتعاملون مع مرض الجدري سريع الانتشار طويل الأمد؟
قالت: يا بني: والله إنها مآسي غمرتني بأحزانها في الأهل والجيران، والضعفاء ، وكم تركت من عميان؟ وكم تركت من أرامل؟ وأيتام؟ وأنت تدرك معاناه أهل الجزيرة من الجدب، وعوامله، وقبل ذلك المعاناة ، والمكابدة من المرض.
قلت: كتب الله لهم أجر الابتلاء ، وأنا متلهف إلى معرفة كيفية التعامل مع المرض والمرضى؟
قالت: ينتشر المرض في البداية ، بلا نذير ؛ ثم يبدأ الناس بعزل المرضى ، فيبنون لهم خياما أو ينقلونهم إلي كهوف أو ظلال شجر ، ويمدون لهم الأطعمة من جهة هبوب الريح، والمرضى يصرخون ، ويئنون ، ويموت بعضهم على مرأى من صحبه ، ويمكثون أياماً أمامهم ، وتبوك وما حولها؛ قد نالت ما نال الآخرون، وقد مررت بأحد الجبال، وهو مكان عزل المجدورين .
قلت: وأنا كذلك مررت مع الوالد قرب جبل (العزل) بجانب تبوك، ونحن على وجل بعد خمسين سنة منه .
قالت: وأكثر مأساة أن أسرة كنت قريبة منهم أبت أن تبعد عنها مرضاهم ؛ فقامت المرأة على معالجة زوجها ، وولدها الذين أصيبا بالجدري حتى ماتا.
ثم سقطت المرأة مريضة فأخذت أبنتها ، تضمد جروحها وترعاها وعينا كل منهما تسيلان دموعا ، وكنت أرقب الوضع وأحاول أن أقف بجانب البنت التي لم تتجاوز الخامسة عشرة عاما من عمرها ، وطالت المعاناة حتى ماتت الأم ، فخشيت على البنت قبل أن تصاب بالمرض من شدة ما رأت وما سمعت، وما عانت ، ولكن الله حماها وحماني غير أن مأساتها صحبتها طوال عمرها ، وقد أفنى المرضى أكثر أهل القرى، وأبناء أهل البادية، وأصحاب الواحات ؛ ثم أتت رياح هوجاء ، فخشينا منها ، وظلت تعصف كريح عاد حولنا لأكثر من شهر ، وكنا لا ندري سر هذه الرياح ، ولكن بعد أن هدأت ، فقد أنقطعت العدوى ، وتعافى المرضى ، فأدركنا حكمة الله من إرسال الرياح ، فهي تارة تكون عقابا ، وتارة لتنظيف الأجواء والأماكن ، وتارة تدفع بالسحب والأمطار.
قلت : وهل أصابك الجدري؟
قالت : نعم ، ولكن الخلوة هي شأني ، فذهبت إلى كهف في أعلى الجبل ، ومكثت فيه انتظاراً للموت ، ولكن الله حماني و شفاني .
قلت: إذن حملت اثقال الأمراض وأثارها.
قالت: والله أنها أكثر مما ذكرت لك ، فأن الطاعون أخلى بيوتاً وجعلها خاوية وأفنى بادية وجعل الأرض خالية والجثث تأكل منها الوحوش و الطيور الجارحة ، فلا تجد من يواريها الثراء ، ثم فاضت دموعها.
وقلت: إنا لله و إن إليه راجعون ، عسى الله أن يعوضهم بالجنة .
بواسطة : الدكتور مسعد العطوي
 2  0