×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
إيمان حماد الحماد

الصراع
إيمان حماد الحماد

من قبل أن يولد المرء وهو في صراع دائم من أجل البقاء .
وإن كانت معظم تلك الصراعات في الحقيقة غير مُجدية ، فقد تكون سبباً في منع رزقٍ ، أو زيادة ضيق ،
وقد يصل ضُرُها فيكون للأجل انقضاء .
وبالرغم من ذلك ، يستمر في صراعاته ، ولا يثنيه عن خوضها فشل أو خوف ، أملاً منه في أن يتغلب عليها ، أو على بعضها ، وكأن هذا كافياً له ليشعر أنه لم يستسلم ، وأنه قام بما عليه .
وها هو في أول صراع له .
نراه يخوض صراعاً قوياً وحازماً وهو في قمة ضعفه ، والجميع بلا استثناء خاض هذا النزاع ، وكان إعلاناً لبدء باقي الصراعات ، فمن يخرج من صراعه الأول منتصراً ، سيكون انتصاره هذا بداية حياته ، وعلامة نجاته ، وساعة ميلاده .
والقِلَّة الذين يفشلون به ، يلقوا حتفهم ، وتنتهي صراعاتهم قبل أن تبدأ . وصراعه الأول هذا ، هو صراعه مع الماء المحيط به في رحم أمه ، فتتلاطم به أمواجه ، وتحيطه وتحمله ، فقد يطفو وتنقذه ، وقد يغرق بها فتهلكه ، ونراه يصارعها بلا قوة ، ويقاومها بلا خبرة ، فيتقلب بها يمنة ويسرة ، ويعتمد فيها على البقاء على مشيمة وحبل سُرَّة ، حتى يتغلب عليها ، فيغادرها ، ويجعل الله بعد عسر يسرا .
ونراه يتصارع أيضاً مع الانقباضات التي تعتصره بين فترة و أخرى ، وتتردد عليه حتى يضيق بها ذرعاً ، ولا يقوى على تحملها ، ويختار الهروب منها ، وهي بدورها تقذف به خارج رحم أمه ، وهو يطيعها ، ويعينها ، فقد ضاق ذرعاً بها ، فيغادرها ببراءته ، ويكون هروبه هذا بداية لحياته ، إذ تُعلَن به ولادته .
ولكن ... هل ستتوقف صراعاته وتنتهي ؟؟؟
سيبدأ الآن صراعاً جديداً مع الأشياء من حوله ، محاولاً اكتشافها .
فإما أن يدركها ، ويستغلها ، فتنفعه ، أو أنها تخفى عليه ، فتقوى ، حتى يعجز عنها ، ودون إدراك منه ، وبلا حراك قد تضرّه .
يكبر هذا الصغير شيئاً فشيئاً ، وتكبر معه صراعاته ، والتي يجد نفسه فيها ، وهو مجبراً على خوضها راغماً وليس راغباً ، وقد يكون باحثاً عنها أحياناً ، وطالباً لها ، وإن كان بها جاهلاً .
فها هو يصارع الظروف التي تصادفه ، فتحيطه ، وتحبطه ، فيجد نفسه مقيدَّاً بها ، فيصارعها وإن كان في معظم الأحيان لا يدرك العواقب ، ولكنه مجبر عليها ، ولا تخلو صراعاته تلك من حاجتها لوجود مراقب .
ومن صراع إلى صراع ، فبعضها تغلبه ، وبعضها يغلبها .
وكلها تعلّمه ، وتقويه ، وللحياة تُهيؤه ، وهو يختبر نفسه بها .
ومع الأيام يجد نفسه مطالباً بخوض صراعات من مستويات أعلى ، فهو الآن سيبدأ صراعاته مع الأشخاص الذين معه وحوله .
صراعات مواقف ، وصراعات أحداث ، وصراعات أفكار ، وصراعات عادات ، وصراعات حاجات ، وصراعات رغبات ، وصراعات قدرات ، وصراعات تحديات ، والكثير الكثير منها .
وفيها جميعها يكون حاله مع نِدِّه ، إما أن يخالفه ، أو أن يتفق معه .
وإما أن يظل ضدَّه ، أو أن يطيعه ويسمعه .
فقد ينتصر في معظمها أو بعضها ، حسب طريقته ، ومنطقه ، وتمكنه من خصمه فيقنعه .
وسيظل كذلك .
إلى تنتهي صراعاته ، عندما يصل لآخر صراع له ، وهو صراعه مع الموت .
فهو يشعر أنه يزوره مع كل مرض ، أو ألم يحل به ، حتى يأتيه فعلاً ، ولكنه ليس زائراً ، وإنما جاء ليأخذه معه .
وهو الصراع الوحيد الذي نهزم فيه جميعاً ، فالموت حق ، وكلنا إن جاءنا نمشي معه .
وبالرغم من كل تلك الصراعات ، وكثرتها ، وتعددها ، وتتابعها ، وتباينها ، واستمراريتها ، وخفَّتها ، وحدَّتها ، إلا أن هناك صراع يخوضه الإنسان مع نفسه ، وهو من أهم تلك الصراعات ، وأشدُّها ضراوة ، وأكثرها فتكا .
يقف فيها المرء أمام مرآته ، ويرى فيها انعكاسه ، وصورة حياته ، يرى حقيقته ، وليس كما تصورها له تطلعاته .
فيتعمق فيها بداخله وليس بظاهره ، لينظر في أحلامه ورغباته ، وليس في طوله وعرضه وعضلاته ، فيخوض في كل أمر منها صراعاً هو محوره ، وهو أيضاً كل اتجاهاته .
يرى طريقاَ هو طرفيه ، وبه تلتقي جميع حيثياته ، وإحداثياته.
فيبدأ هنا صراعاته ، ليحزم أمره ، ويضع قراراته ، ويحدد اختياراته .
صراعه بين عقله وقلبه .
وصراعه بين رغبته وقدرته .
وصراعاً بين حاجاته واستعداداته .
وصراعاً بين التزاماته وميزانيته وميزانه .
أي تلك الأطراف أجدر بأن يطيعه ، وأيها أقدر على أن يجذبه لِصَوبِه .
وهل سيكون قادراً في كل صراع على تحمُّل عقباته ، والرضى باختياراته ، والوصول إلى بر السلامة في نهاياته ، ويبحر إلى شاطئ الأمان في أصعب رحلاته .
فهل تراه سيفعل ؟؟؟ ؟
لأنه إن كان قادراً على ذلك ؛ فهو المنتصر بلا ريب .
وليس التنازل في بعض الأحيان عيبا .
فالمرء مهما انتصر ، إلا أن هناك أموراً سيظل يجهلها ، لأنها ستظل في عالم الغيب .
وهو بقوته ورغبته ، ورفضه لاستسلامه سيجد لانتصاره أمام نفسه ألف درب ودرب .
وما عليه إلا أن يخوض صراعه ، ويبذل جهده ، ومن ثم يرضى بقدره خيره وشره.
فكلنا في حياته إما صارع أو مصروع .
وإما تابع أو متبوع .
وإما أن يثبت ويتمسك بجذور أصيلة .
أو أن يضعف ، فَيَخِفَّ ، ويَجِّفَّ ، ويسقط ، كأي فرع من الفروع .
بواسطة : إيمان حماد الحماد
 0  0