×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

قرويين في مصر

قرويين في مصر
 
في أحد أيام الصيف 1397هـ، الموافق 1977م، وبعد حصولي على شهادة المرحلة المتوسطة ، كنت أحضر مع بعض الأصدقاء بحي الجديدة بالعلا، مناسبة لأحد شباب البلدة، فاجأني صديقي وجاري عبدالله سليمان سعد النجدي، بقوله: غدا سوف نسافر أنا وأخي سعد وابن عمي محمد عبدالله الى تبوك ومنها الى القاهرة، أبديت له رغبتي الشديدة في السفر معهم للقاهرة التي كانت في ذلك الوقت الوجهة السياحية المرغوبة للعرب خاصة الخليجيين، ولكن استدركت كيف أقنع والدي بذلك؟، ثم خطرت لي فكرة أن أتحدث مع والدهم العم سليمان سعد النجدي، وأطلب منه اقناع والدي بالسفر معهم، وهذا ماحدث، وكانت فرحتي لا توصف عندما علمت أن والدي قد وافق على سفري وأعطاني بعضاً من المال . ذهبت الى المنزل واستعدت الى السفر وحضّرت حقيبتي، ثوب، غترة وعقال، ليلتها لم ننم من الفرحة، لم يخطر ببالنا نحن الأربعة أن نلبس بناطيل وقمصان، وبعد ظهر اليوم التالي استقلينا السيارة الداتسون موزعين بين الدرجة الأولى والدرجة السياحية (قمرة قيادة السيارة وصندوقها)، وكل منا يحمل حقيبته الحديدية أوالجلدية، ومخدة وبطانية، مسلحين ببعض النصائح التي تلقيناها من شخص سبق له السفر الى القاهرة، منها، أنه عند وصولنا للمطار ينبغي أن نكون متنبهين جيدا من بعض المحتالين ومن تلاعب بعض سائقي سيارات الأجرة، مؤكدا لنا أن أجرة النقل من المطار الى القاهرة هي مبلغ 5 جنيه فقط وكذلك الحذر من بعض المشروبات في المطاعم التي من المحتمل اضافة الكحول لها ، کما زودنا باسم رجل مصري صاحب مطعم كباب في العتبة بالقاهرة، اسمه ابراهيم الدجوي (عرف عن هذا الرجل أمانته ورقي تعامله، خدم أبناء العلا الذين زارو القاهرة دون مقابل، مثل مساعدتهم في البحث عن مكاناً للسكن، وقبوله لايداع نقودهم لديه كأمانة حفظا لها من السرقة أو الضياع، جزاه الله خيرا).
انطلقنا باتجاه مدينة تبوك، كانت مسافة الطريق من العلا الى تبوك مرورًا بالمعظم هي الأقرب الا أنها غير معبدة وشاقة، لذلك سلكنا الطريق الآخر (العلا باتجاه مفرق خيبر وقبله الانعطاف باتجاه العشاش- الجهراء - تيماء- القليبة- تبوك، ورغم أن المسافة أكثر من ضعفي مسافة الطريق الأولى، الا أن الجزء الكبير من الطريق الثانية كانت معبدة وواضحة المعالم، ثم وصلنا الى تبوك مساء الا أننا لم ندخلها بل توقفنا على جانب الطريق وتناولنا بعض ماكنا نحمله من خبز وجبن وبعض الماء، ثم نمنا في العراء، وفي الصباح الباكر استيقظنا، وتوجهنا مباشرة الى مكتب الخطوط السعودية بتبوك، وكم كنا سعداء عندما وجدنا الموظف المسئول الأستاذ أحمد المنصور، أحد أبناء العلا، أخبرناه برغبتنا في الحصول على تذاكر سفر الى القاهرة، وأذكر أنه قال لنا ان قيمة التذكرة من تبوك الى القاهرة ذهابا واياباً 410 ريال لكل شخص، وقبل اصدار التذاكر سألنا ان كان لدينا جوازات سفر، أجبناه بالنفي فطلب منا الذهاب الى ادارة جوازات تبوك لاصدارها، وبعد أن حصلنا على الجوازات المطلوبة توجهنا في اليوم التالي الى المطار قبل موعد الاقلاع بأربع ساعات، لم يسبق لنا جميعا تجربة السفر بالطائرة، لذلك كنا متخوفين، الا أننا توكلنا على الله وصعدنا الطائرة، وطبعا لم ننسى حقائبنا الحديدية، التي من شدة خوفنا من ضياعها أصرينا على أن نصعد بها للطائرة كما كان عليه الحال عندما نسافر باللوري مع نامي الحازمي من العلا الى المدينة المنورة، لكن موظف الخطوط السعودية أقنعنا بعد جهد أن حقائبنا كبيرة ولابد من شحنها وبأنه لاخوف عليها وسوف نستلمها في القاهرة.
صعدنا للطائرة وأول مقاعد وجدناها جلسنا عليها، لكن المضيفة بعد تأكدها من بطاقات صعود الطائرة التي بحوزتنا أخبرتنا أننا نجلس على مقاعد مخصصة للدرجة الأولى وأن علينا الرجوع للخلف حيث الدرجة السياحية، استجبنا لطلبها وأخذ كل منا مقعده وساعدتنا جزاها الله خيرا في ربط الأحزمة.
اندهشنا عندما بدأت الطائرة تسير على المدرج ببطء لدقائق، كنا نتوقع أن تقلع مباشرة، لكنها لم تقلع!، تسائلنا، هل يعني أن الطائرة سوف تسير بهذا الشكل الى أن تصل الى القاهرة؟، وما هي الا لحظات حتى انطلقت الطائرة مسرعة ثم أقلعت، وهنا انتابنا الخوف الشديد خاصة عند مرور الطائرة بالمطبات الهوائية، لدرجة أن الركاب الذين يجلسون في المقاعد المجاورة لمقاعدنا كانوا يضحكون بشدة من ردود أفعالنا مع كل مطب هوائي.
لم تستغرق الرحلة الا حوالي ساعةٍ والربع، كانت بالنسبة لنا دهرا، وعندما هبطت في مطار القاهرة، كان التعب ودوار الجو قد أخذ منا مأخذه، نتيجة عدم تعودنا على بيئة الطيران اضافة الى الخوف والقلق من تجربة ركوب الطائرة للمرة الأولى.
نزلنا من الطائرة وتجمعنا نحن الأربعة تحت جناح الطائرة منتظرين حقائبنا، لكنهم أقنعونا بأن الحقائب سوف نستلمها في صالة القدوم، وبعد أن أنهينا اجراءات الوصول والجوازات لاحظ الموظف أن في حقائبنا أكياس بلاستيك صغيرة بها مادة غريبة عليهم (هي دواء عشبي، مكون من مجموعة أعشاب، منها، مسحوق بذور نبات الشمر، مسحوق قشر الرمان، بالاضافة الى مسحوق اليانسون...الخ، ويستخدم لعلاج بعض الأمراض البسيطة مثل المغص والإمساك، وبعد فاتحا للشهية... إلخ، ويسمى في العلا: "دواء خطر"، كان علاجا فعالا إلى حد كبير، حرصت أمهاتنا على أن نضعها في حقائبنا، وبعد أن تأكدوا أن هذه المادة هي عبارة عن خليط من الأعشاب فقط، أعادوها لنا وسمحوا لنا بالخروج.
خرجنا من مبنى المطار باتجاه مواقف سيارات الأجرة، تجمع حولنا العديد من سائقي سيارات الأجرة كل منهم يطلب منا الركوب معه لايصالنا لوجهتنا، وعندما كنا نسألهم عن المبلغ المطلوب، يخبرونا بأنه 10 جنيه، طبعا لم ننسى نصيحة صاحبنا في العلا بأن أجرة النقل لا تزيد عن 5 جنيه، فأردنا أن نثبت لهم أننا شطار لايمكن غشنا أو الاحتيال علينا، لذلك بقينا في مواقف سيارات الأجرة حوالي ساعةٍ علنا نجد من يقبل بتوصيلنا بمبلغ 5 جنيه، لكننا لم نجد، أخيرا قررنا مرغمين القبول بدفع مبلغ 10 جنيه وانطلقت السيارة الى القاهرة، وفي الطريق سألنا السائق وببساطة ابن القرية، هل تعرف الدجوي؟، نظر السائق الينا باستغراب متسائلا: مين الدجوي دا؟!
وصلنا الى وسط القاهرة، توقف السائق، وقال تفضلوا حضراتكم وصلنا للمكان الذي طلبتم توصيلكم اليه، نزلنا وسألنا أول شخص قابلناه، لو سمحت تعرف الدجوي؟، أجاب باستغراب،
مين الدجوي يبني؟ قلنا له انه صاحب مطعم كباب في العتبة، قال يبني دي الحسينية!. أدركنا ساعتها أن السائق لم يوصلنا الى وجهتنا، بل لوجهة أخرى ربما لأننا لم نذكر له اسم المنطقة بالشكل الصحيح، فاستقلينا سيارة أجرة أخرى وانطلقنا ثانية الى وجهتنا الصحيحة، وصلنا ونزلنا أمام فندق قريب من ميدان العتبة، لم نتوقع هذا الزحام الشديد سواء من السيارات وعربات الكارو، أو من حركة الناس، الرجال مع النساء، أغلب النساء لايرتدين الحجاب وبملابس قصيرة، البائعين كل منهم يصيح بأعلى صوته مسوقا لبضاعته، اختلطت أصوات البشر بأصوات أبواق السيارات، كان منظرا مهيبا وغريبا لنا نحن أبناء القرية الهادئة المحافظة.
أنزلنا حقائبنا وأسندناها لأحد أعمدة الفندق، ووقفنا نحرسها، أحدنا من الجهة اليمني والآخر من الجهة اليسرى، والثالث من الأمام، بينما الرابع، وهوالصديق سعد سليمان النجدي، قرر أن يذهب للبحث عن الدجوي، كان منظرنا غريب وملفت، فقد كنا نرتدي الزي السعودي وفي وسط منطقة مليئة بالناس، ونحن ملتفين حول حقائب بعضها جلدية والبعض الآخر حديدية عليها رسمات ورود ومحكمة الاغلاق بأقفال وزن كل منها ربع كيلو، كأن بداخلها سبائك ذهب، بينما لا الا على بعض الملابس، ننظر باستغراب شديد لما حولنا، وكل من مر بنا ينظر الينا بنظرة اندهاش، ولا أنسى أحدهم مر من جانبنا ونظر الينا نظرة استغراب، غاب مدة من الزمن وعندما عاد ولا حظ أننا لازلنا واقفين حول الحقائب، هز رأسة بتعجب وتمتم بكلمات غير مفهومه وذهب، وبعد طول انتظار اعتقدنا أن رفيقنا سعد الذي ذهب للبحث عن الدجوي قد ظل الطريق لكنه فجأة ظهر وملامح وجهه تدل على أنه فشل في العثور على الدجوي،! وبمشاعر لا تخلو من القلق والتوتر تسائلنا مالعمل اذا لم نجد الدجوي؟.
وأخيرا وبما أننا كنا نشعر بالارهاق والجوع قررنا المبيت في هذا الفندق الذي نقف بجواره، وفي الغد يخلق الله مالا تعلمون، وبالفعل ورغم أن سعر الغرف بالفندق كانت عالية مقارنة بميزانيتنا، الا أننا كنا مضطرين، فبتنا فيه تلك الليلة بعد تناولنا للعشاء، وفي الصباح الباكر بحثنا عن الدجوي، ولحسن الحظ وجدناه وسلمناه مالدينا من مبالغ ماليه لحفظها لديه، وأقمنا في فندق آخر قريب من مطعمه بسعر أقل من الفندق الأول، وبعد اقامتنا فيه ليلة واحدة، كانت من أسوأ الليالي، غرفة لايوجد بها مكيف أو حتى مروحة، ودرجة الرطوبة عالية، بالاضافة الى أن نافذتها مكسورة، وما كدنا نغفو قليلا حتى بدأ البعوض يهاجمنا بشراسة، لدرجة أننا عندما صحونا وجدنا اثاراً واضحة على أجسادنا بشكل ملفت.
لكن الخبر المفرح هو ما تلقيناه من شخص أرسله الدجوي مبشرا بأنهم وجدوا لنا شقة مفروشة بحي الزمالك، تتكون من أربعة غرف وصالة ومطبخ، وبايجار شهري قدره (100) جنيه مصري، سعر الجنية المصاري وقتها بـ 5 ريال سعودي. انتقلنا الى الشقة وبقينا فيها شهرا كاملا، زرنا خلاله معالم كثيرة في القاهرة، أهمها الاهرامات ونهر النيل الذي كنا نعتقد قبل أن نراه أنه يشبه عين تدعل الشهيرة في بلدتنا العلا، لكن تبين لنا أنه لا مقارنة بينهما على الاطلاق.
كانت رحلة جميلة للغاية وتجربة فريدة بقيت ذكرياتها عالقة في أذهاننا، لا يمحوها الزمن.
التعليقات 0
التعليقات 0
المزيد