×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

قضايا اجتماعية.. الجزء الخامس "قضية الاتكالية"

قضايا اجتماعية.. الجزء الخامس "قضية الاتكالية"
 تشهد مجتمعاتنا تطوراً ملحوظاً في جميع المجالات بلا استثناء ، وترصد زخماً هائلاً من الأعمال في مختلف التخصصات نظرية كانت ، أو مهمات وأداء ، وفي كل مجال منها أصبحنا نرى المقبلين عليه بكل حماس ، والمندفعين نحوه بكامل فكرهم ، ويسخرون لبذله كل الحواس ، فنراهم كشعلة تُضيء المكان بنورها ، ونسمع صوت دَوِّيهم يهز الأرجاء بهمتهم ونشاطهم ، فحرصهم على الإتقان شاهد ، وتفانيهم في العمل منظور ومشهود ، بدقتهم يلتزمون الضوابط ، وانتاجهم دوماً مميز ومضبوط ، يشار لهم بالبنان ، ويدار عملهم بإتقان ، حتى أصبحوا للتميز عنوان ، وبالتفرد أصبحوا ذوي شأن ، فكل من بحث عن الجودة قصدهم ، وكل من أراد السرعة طلبهم ، وكل من طلب الإتقان بحث عنهم ، فأسماؤهم صارت معروفة ، وقدراتهم للعالمين مكشوفة ، وعبارات اليأس والكسل من قواميسهم محذوفة ، راحتهم في العمل ، وهمتهم لا تعرف معنى الفشل ...
ونظرا لتداخل المنافع ، وتضارب المصالح ، وارتباط المهن ، وتشابك الأعمال ، واعتماد النتائج على ما سبقها ، فلم يعد يتوقف نجاحها على من بدأها ، وهو ليس منوطاً بمن أكملها ، بل هو عمل جماعي ، كل طرف منه بيد ، وكل جزء منه مرتبط بشخص ، ينجح إن نجح أفراده ، ويتميز بتميزهم ، نشاطهم ينعكس عليه ، وإخلاصهم مردود إليه ، وتعاونهم يحيط به من جانبيه ، فإن خار أحدهم ضعف العمل ، وإن تأخر بعضهم ضاع الأمل ، بغياب شخص يتزعزع الكيان ، وبإهمال البعض يصعب الإتقان .
وبما أن طبيعة البشر مختلفة ، وصفاتهم متناقضة ، وشخصياتهم متضاربة ، فقد أوجد لنا هذا التناقض مجموعة كبيرة من الأشخاص الذين يصعدون على أكتاف غيرهم ، ويتسلقون على ظهورهم ، وينجحون بجهودهم ، فليس لهم من الإنجاز إلا صيته ، ولا يأخذون من الناجح إلا جيرته ، فلا عدواه تصيبهم ، ولا حرصه يحركهم ، فقد أحاطوا أنفسهم بهالة من اللامبالاة ، ولم يكلفوها ولو جزءا من المعاناة ، طغت عليهم السلبية ، وسيطرت على مهامهم الاتكالية ، وساعدهم على ذلك الأعمال الجماعية ، والمهام التسلسلية ، وعلمهم بوجود حريص بينهم عزّز لديهم تلك الأنانية ، فهم على ثقة بأن حرصه سيحركه ، ونشاطه سيدفعه ، وكسلهم لن يعطله ، وتأخيرهم لن يؤخره ، فعمله سيُنْجَزُ بهم وبدونهم ، ومهمته ستؤدى وإن كان النجاح سيطولهم ، وهو يفضل أن يتضاعف عمله ، ويقوم بدوره ودورهم ويهدي نجاحه للآخرين ، على أن يلتزم بما عليه ، ويترك لفشلهم المجال أن يؤثر عليه ، فالنجاح هدفه ، وهو حريص على تحقيقه والوصول إليه وإن كلفه ذلك القيام بعمله وعمل غيره ، والتميز غايته وهو يسعى له وإن صادفه في طريقه إخفاق غيره ، فهي عقبة ولكنها لن توقفه ، قد تعيقه فترة ولكنها لن تردعه ، وعن تحقيق هدفه لن تمنعه .
ونحن لا نعلم الآن ، هل علينا أن نشكره لمضاعفة جهوده ، للوفاء بعهوده ، أم نلومه لأن هذا الحرص زادهم كسلا على كسلهم ، وعزز صفة الاتكالية لديهم .
فلم يعد هناك مجال لعلاجها ، ولم يدعوا لهم المجال لتذوق مرارها ، أو رؤية آثارها ، فكيف سنقنعهم بأنهم بكسلهم يعطلون العمل ، ونحن نرى العمل كله منجز ، وكيف سنجادلهم في آثار تكاسلهم ، ونحن لم نتمكن من رصدها ، وكيف سنعاقبهم على تأخيرهم ونحن لم نتأثر به ، وكيف سنحرمهم أجر العمل ونحن لا نملك ما نُحٌاجَهُم به ، أو نعتمد في قرارنا عليه .
ولا أعلم ، هل الحريص والمتميز هو السبب في وجودهم ، وزيادة أعدادهم ، أم الاتكالية فيهم وجدت أرضا خصبة في تربة المتميزين فنمت بسقياهم ، وعاشت بعطاياهم ، فما زالوا يتعهدوها بالرعاية حتى اشتد عودهم ، وقويت شوكتهم ، فهم في ازدياد ، ولم يعد يجدي معهم تهديد أو عناد .
فكيف يمكن أن نعالجهم ، وكيف نستطيع أن نكسر شوكتهم ، ونخلص المجتمع من سلبيتهم ، ونجبرهم على القيام بدورهم ؟؟!!
ليس أمامنا سوى مراقبتهم في بداية الأمر ، وحصرهم ، ووضعهم في اختبارات اجبارية ، بتكليفهم بمهام فردية ؛ لنكشف أمرهم ، فنواجههم بحقيقتهم ، ونضيق الخناق عليهم بالأعمال الجماعية ، فلا يشتركون إلا مع من كانوا مثلهم ، فلا يجدوا من يتكؤوا عليه ، فهم يعلمون أنه ليس بينهم من سيرجع الأمر إليه ، أو ينجز العمل بيديه .
فهاهم يقفون أمام حقيقتهم ، ويحكمون على أنفسهم بسلبيتهم ، ولن يخلصهم إلا أن يعالجوا أنفسهم بطريقتهم ، وينجزوا مهمتهم بأيديهم ، فإن فعلوا فهو المراد وقد تحقق ، وبه نفعوا أنفسهم ونفعوا البلاد ، وإن عجزوا فلا بد لنا في الأمر أن نحقق ، وفي آثاره ندقق ، حتى لا يستفحل شرهم ، ويعظم أذاهم ، فيضروا البلاد والعباد .
ومن جانب آخر على كل شخصٍ مسؤول مراقبة نفسه قبل أن يراقبه الآخرون ، وعليه أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه المحيطون ، وألا يترك مجالا لمن حوله ليقيّموا عمله ، أو ينتقدوه ، ولا يسمح لهم أن يَمُنُّوا عليه بأدائهم عمله ، وأن يثبت لنفسه قبل أن يثبت للجميع أنه قادر مثلهم على إنجاز ما يطلب منه ، فما لديهم لاينقصه ، وما يستطيعونه لن يُعْجِزَه ، وكل ما فاته من تقصير ، وما صدر عنه من تأخير قادر - إن عزم أمره وأصلح حاله - أن يدركه ، وهذا ما يجب أن يكون عليه الشخص المسؤول ، وما ننتظره من أصحاب العقول ، وما نتوقعه بعدها أفضل مما نقول ، وهو خير على الجميع يؤول .
التعليقات 0
التعليقات 0
المزيد