×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
شتيوي العطوي

رمضان أيام زمان !
شتيوي العطوي

مع بزوغ هلال كل شهر كانت والدتي يرحمها الله تقف عند مقدم البيت وتتمتم بكلام لا أفهمه وقد لا يعنيني ما تقوله،غير أني أدركت لاحقا أنها كانت تدعو بدعاء خفي بدون مكبرات صوت . واليوم كم أتمنى أني حفظت ذلك الدعاء البريء الموجه مباشرة إلى خالق السموات والأرض . ربما يرى البعض فيما كانت تفعله بدعة والحقيقة أنها هي ومن يطوفون الأرض خفافا خلف أذناب تحلو بها الحياة أنهم كانوا على الفطرة.

ومع مغرب شمس يوم صفو صائف أعلنت جدتي التي لم يكن لديها تلسكوب فلكي ولا تعرف الحسابات الفلكية، وبعين مجردة لم تتزين بالعدسات الملونة أو الكحل الكمبودي، أعلنت وبكل ثقة عن رؤية هلال رمضان . فكانت الفرحة تملأ قلبها وهي تبشرنا رغم حر الصيف وقلة المؤونة.

سنون عديدة وجدتي يرحمها الله - ترى الهلال دون أن يأتي من يقول لها بأنها أخطأت فرأت كوكب " الزهرة " ولم تنتظر حتى يأتيها الخبر اليقين من المرصد الأمريكي في كولورادو . إنها في سوح منعزل عن كل موجات العالم . قد لا تجيد قراءة الفاتحة، وربما لا تحسن الوضوء ولا حتى الصلاة ! . هل كان ذلك ذنبها ؟ أم أن هناك من نام عن دوره في أبراج من عاج . لكن صدق النيّة يجعلها ومثلها أقرب إلى الله من فقيه معطّر " ربّ أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّه ".

وفي تلك الليلة نامت الأعين على صوت " أوركسترا " الصحراء بين حنين ورغاء وثغاء وخوار ونباح وصيحة ديك . الكل يضبط إيقاعاته وفق الساعة الكونيّة والتوجيه الإلهي لما يخدم المعاش من سبات في الليل ونشور في النهار . ولم يكن هناك ساعة توقيت تدق أجراسها في آذآن النائمين ، بل هناك ساعة " بيولوجية " تدق في نفس جدتي وقد ضبطت منذ ستين سنة . واليوم أجزم أن ساعتنا البيولوجية تعطلت حين عرفنا السهر إلى الفجر والنوم عن صلاتي الظهر والعصر.

وعلى صوت التهليل والتكبير يصحو النائمون، فقد حان وقت السّحور حسب التوقيت المحلي لساعة جدتي، ولا أدري ماذا كان السحور في تلك الليلة، حيث كنت في حالة بين نوم ويقظة، لكنه بالتـأكيد لن يختلف عما اعتدناه في كل ليلة.

وبعد صلاة الفجر يستعد الراعي " سند " لمهمته، فهو لن ينام إلى العاشرة ضحا، فهناك حناجر وأفواه تخور وتثغي ولن تصمت حتى يأخذ حظه من النوم . لا بد وأنه سيمضي نهاره يستظل بثوب خلق يضعه على رأسه . لا شيء يتغير في خارطة الزمن ما بين طلوع فجر وغروب شمس . فالصوم لا يعني أن تتعطل الحياة والمصالح حتى يشبع المرفهون نوما على أسرّة وثيرة.

يدخل رمضان بصيفه من تحت رفّة بيت من الشّعر تخفق به الريح ويلفحه لهيب الشمس من كل مكان، والعين على قربة ماء مدبوغة جاء بها الورد من مكان بعيد، وكسرة خبز متمرغة بالرماد . وعين أخرى تنظر من تحت رواق البيت إلى غياب قرص الشمس، فيظهر على السفرة قرص من عجين تطبطبه أمي عما علق به من رماد، وما بين القرصين حكاية، كأسهل ما تكون الحكاية، وأصعب ما تكون الحياة في نظر من لم يعش حياة الصحراء . وسنكمل الحكاية في " بيت الحريّة " إن شاء الله - تحت عنوان " ليالي دمج ".

وكل عام وأنتم بخير
بواسطة : شتيوي العطوي
 5  0