×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
شتيوي العطوي

عصر " الباذنجان " !
شتيوي العطوي

دخل " الأكمخي " البيت ، فسمع لحنا طروبا في المطبخ . لا بدّ وأنّ للمطبخ سحرا وجمالا وبهاء .. فهو يحوي بين جنباته ما لذ وطاب ، وكل مقومات الإلهام ( الماء والخضروات والفواكه واللحمة والبهارات والمربى والمخللات ، وكل منشطات الفكر من قهوة وشاي .. إلخ ) . فدخل حمى المطبخ ، ووجد أم العيال متمنطقة بحزام وتقوم بعمليات الجلي .. وعلى صوت أوركسترا المواعين كانت تغني . فوقف عند الباب يستمع ، وحين شعرت به قلبت اللحن إلى : يمّه القمر ع الباب ! . فأدرك أن الوقت مناسب جدا في هذا الجو الشاعري لتمرير أحد القرارات الصعبة ، فقطع عليها الموّال وقال : هل من وجبة تسدّ البطن وتسند الظهر ؟ . فأشارت إلى كيس بطاطا عن يمينها ثم تابعت تغني !
أسند الأكمخي ظهره إلى الباب فصاح بها قائلا : يا صنّاجة العرب ، أريد وجبة تتحدث عنها مصارين بطني شهرا كاملا . فقالت : وماذا تريد ؟
يعلم الأكمخي أن وجبته المفضلة قد أدرجت في القائمة السوداء منذ زمن بعيد ، علما أنها وجبة دسمة ، وفيها تنوع غذائي وتآلف وانسجام بين عناصرها المتعددة ، لكنها تحتاج إلى فريق عمل ، وهذا ما يجعل شوربة العدس خارج القائمة السودة مع أن " العدس " ينفخ البطن ، ولا داعي لشرح ما بعد النفخ . فاستجمع " الأكمخي " قواه وأطلق صيحة ملأت أرجاء المطبخ : أريد " محشي " ! فالتفتت إليه " أم العيال " وبرمت براطمها ، وحملقت وحوقلت ، وقالت وهي تشير إليه بملاعق الاتهام : أليس لك عقل يفكر .. أكلت قبل ساعة وتفكر في الوجبة الأخرى ؟! فقال : وهل بقي عقل يفكر يا سيدتي ؟! ثم بماذا سأفكر ؟ ولو أني شغّلت محركات مخي بالتفكير لتبدلت بك الحال ، ولتعطلت عندك لغة الكلام الجميل ، ولفقد مسمعي صوتك الطروب . ومع ذلك سأفكر .
فقالت : فكر في أيّ شيء ما عدا " المحشي " !
أدرك " الأكمخي " أنّ وجبة المحشي عصيّة المنال ، لكنّه فكّر في حيلة تجعل أم العيال ترضخ لطلبه ، فقال لها : ما دمت سمحت لي بحرية التفكير فإني أفكر في أن أتزوج !. فخرجت أم العيال عن طورها ، وأخذت تولول وتندب الحظ ، وشرعت تذكره بأيام العشرة ، وسنين العثرة ، والحلوة والمرة . وبما أن الأمور قد تخرج عن السيطرة خصوصا وأن المطبخ مليء بالأسلحة البيضاء ، لذلك طمأنها بأن تفكيره لن يحدث أثرا في بلاط المطبخ . ثم قال لها : أرأيت ما فعلته حرية التفكير ؟ وبعد أن عادت إليها روحها قالت : أراك تستحق تأبيدة !
تذكّر الأكمخي حزب الكنبة ( الأولاد ) وأنهم يعشقون المحشي ، ولا بد وأنهم سيصوتون لصالحه . فقال لها : ما رأيك في صندوق الاقتراع ( ديمقراطية من أجل المحشي ) !. فوافقت على مضض ، فجاء الأولاد وأدلوا بأصواتهم ، فكانت النتيجة كاسحة لصالح " المحشي " . فخرج الأكمخي إلى السوق لشراء ما يلزم ، فوجد السوق محشيّا تتعالى فيه الأصوات . وكان أجملها صوت ذلك الفلاح الذي يردد موال " والقرع لما استوى قال للخيار يا لوبيا " . كان الصوت جميلا وأجمل منه بساطة ذلك الإنسان وعفويته التي قد لا تفرّق ما بين نبات الخيار وخيار الحياة في هذا العالم ، فوقف يفكّر ويسأل نفسه : كيف يهزأ القرع من الخيار وهما يزرعان في أرض واحدة ، ويسقيان بماء واحد ؟ ومن المستفيد من هذا الصراع ؟ . وحين أدرك أنه السمسار ، وأن الضحيّة القرع والخيار . لذلك قرر أن يخرج من السوق من غير شيء ، لأن هناك ارتفاع في الأسعار وأن ما في جيبه يعجز عن شراء صندوق كوسا . لكن تداركه صوت فلّاح آخر يردد ويقول " أسود وقلبه أبيض " فظن أنّه يقصد الإنسان ! وحين نظر إلى حال قلبه أدرك سوء ظنه ، فعلم أنّ الفلاح يقصد " الباذنجان " ، تلك الثمرة الرخيصة التي كان ينظر إليها نظرة عنصريّة ، فهو من ربع " البطاطا " وتربطه بها علاقة تاريخية ، حيث كانت أمه تهرسها له هرسا ، ومن شبّ على حبّ شيء شاب عليه . لذلك كان الباذنجان غائبا عن ضمير المعدة ووجدان الأمعاء . لكنّ ذلك الفلّاح كشف له عن حقيقة جميلة كان يجب أن يتحلّى بها الإنسان قبل الباذنجان ، فخرج من السوق بقلب أسود يحمل فوقه قلبا أبيض " باذنجان " . ونهاية العشق محاكمة طويلة .. فأم العيال تكره " الباذنجان " .. لكن في سبيل الحقيقة لا يهم المتهم أن يقف خلف القضبان وهو يستمع إلى صدور الأحكام . فالحقيقة أكبر من كل دجل ولن يحطّمها شاكوش القاضية . ولن تكون القضيّة ضد مجهول . فالمجهول في دوائر عدالة هذا العالم " معلوم " يعبث بكل أحلام التعساء . لكنّ " أم العيال " لم تصدقه وهو يحلف لها اليمين . فكاد أن يحلف لها بالشّرف الذي لا يعرفه بعض الناس .. لكنّه تعوّذ من الشرك ، وأقسم لأم العيال في مطبخ العدل ولكل العالم وعدالته أن الباذنجان قلبه " أبيض " . وغدا تشرق الشمس ويؤكل " المحشي " .
والسلام
بواسطة : شتيوي العطوي
 10  0