×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
شتيوي العطوي

الشّاشة الغشّاشة !
شتيوي العطوي

في يوم من الأيام أوكلت إليّ وظيفة ( مفسّح معيز ) وهي رعي الخوالف أي ذوات العاهات التي لا تستطيع اللحاق بالسّرح، وكان ذلك قبل عصر " المنقيّات " . وفي ذلك اليوم كنت على موعد مع صوت ملأ مسامع العاشقين ولم أكن منهم يومئذ . فكان الصوت يصدح من غمرة سيارة " حصناني " . إنه صوت " حجاب " ، فجلست أستمع إليه وهو يقول : آه .. آآه .. آآها .. آه . قلبي عامل له تلفزيون ليراها على الشاشة ! .. وكنت أردد معه تلك الآهات دون أن أدرك مغزاها ، ولم أتخيل أنه سيأتي عليّ زمان تبلغ فيه آهاتي في اليوم ألف آه وآه . وفي ذلك الزمن الجميل لم أكن أعرف التلفزيون، وبقيت لسنين وأنا أجهل أمره . والعجيب أنني شاهدت السينما قبل التلفزيون، حيث كان يسكن بجوارنا مجموعة من الهنود، وكان لديهم سينما يعرضونها على الجدار .. وبعد حين اشترينا جهاز تلفزيون ( 12 بوصة ) وبالرغم من صغر شاشته إلا أنها كانت تملأ أعيننا وأعين من حضر من الجيران .
بدأ عشقي للتلفزيون كإنسان بدائي يؤمن بالأساطير والخرافات .. وكنت أعتقد أن كل شيء أمامي هو عين الحقيقة .. نسيت روايات جدتي ( كان يا ما كان ) .. نسيت " الضّبعة " التي كانت بطنها " مخزن " لكل شيء يراد إخفاؤه عنا ونحن صغار . كل شيء في بطن " الضبعة ". يا لها من ضبعة ! . ومع كل التهم الموجهة لها إلا أنها لم تقدّم للمحاكمة في يوم من الأيام .. لا عليك ستكبر وتكتشف أنّ " أم عامر " بريئة من جميع التهم المنسوبة إليها .
لقد أحببت التلفزيون وكان لا يفوتني من برامجه شيء .. وكنت أضع وسادتي بجواره في انتظار مسلسل السهرة بعد نشرة الأخبار، حيث حلت المسلسلات محل السواليف، وأصبحت أتقن اللهجة المصرية واللبنانية والبيزنطية . وفي زمن البث الأرضي كان هناك تحكما فيما يرى الناس ويسمعون .. وكان كل شعب يفكر في حدود دائرته ولا يكاد يرى غير صورته التي يراها أجمل صورة على سطح الكرة الأرضية . حتى إذا جاء البث الفضائي انكشف الستار عن هذا العالم وأصبحنا نرى أسوأ ما فيه، وأخذ كل واحد منا يتحسس ذاته .. إننا أمام بث حي ومباشر يزيدنا ألما في نفوسنا ويقتل فينا روح الأخلاق والإنسانية. إنها فرصة عواهر العالم الذين لا خلاق لهم .وكنت فيما سبق أجلس أمام التلفزيون، ويزداد قربي منه أكثر حين " المصارعة الحرة " التي كان يعلق عليها الأستاذ " إبراهيم الراشد " يرحمه الله .. وكان الراشد يغضب كثيرا من تجاوزات الحكم ومن التدخلات الخارجية على حلبة المصارعة . وكان يتعاطف مع المصارعين العرب ومنهم السوداني" عبدالله الجزار " الذي لم تفلح كرشه الكبيرة في صد هجمات الحلم الأمريكي " داستي رودز " . وقد غضب الراشد ذات ليلة فقال : إنّ العرب يأتون للحلبات الأمريكية من أجل أن يُضرَبوا ( هناك فرق في ميزان القوة بين العضلات والكروش ) . أدركت حينها ومن خلال تعليقات الراشد أن حلبة المصارعة ما هي إلا صورة مصغرة لعالم كبير . وكم كان يؤسفني وأنا أرى حزام البطولة يذهب إلى من لا يستحق ، إما بتدخلات خارجية أو بضربة غير قانونية يتغاضى عنها الحكم . وبعد حرب العراق وظهور محطات البث الفضائي تغيرت نظرتي للتلفزيون ، فلم يعد عقلي أمام الشاشة، بل خلف الشاشة . أي أنني أصبحت أفكر في كل ما يدور حولي ، ولم تعد جمجمتي مكبّا لنفايات العالم . لقد أدركت الحقيقة وأصبحت ناقدا لكل مسرحيات هذا العالم الكوميدية والتراجيدية.
وهنا أقول لكل المؤمنين بما يبثه الفضاء : أدركوا عقولكم قبل أن تصاب بالعفن ولا تسلموها للمهرّجين .. وقد مر علينا زمان كانوا يقولون فيه " الصورة لا تكذب " وفي هذا الزمان رأينا أن الصورة أشد كذبا، وأصبحت الكاميرا الناقلة للصورة أكبر تأثيرا من القنبلة الذرية !. وخلال العشرين سنة الماضية شاهدنا أكبر عملية للتزوير في تاريخ العالم، حتى بات الحق باطلا ، والباطل حقا .
أرجو أن لا تنسوا حكاية " الضّبعة " تذكروها جيدا، وابحثوا عن الحقيقة، فربما تجدون أشياءكم المفقودة وأفكاركم المسروقة في بطن " أبو الحصين " !. وتذكروا أيضا أن " حجاب بن نحيت " قد اكتشف مبكرا أن الشّاشة غشّاشة !
يقول أستاذي الجميل ( عبدالرحمن العكيمي ) : " أسوأ ما في الحقيقة أنها لا تكتشف إلا في النهايات " .
والسلام
بواسطة : شتيوي العطوي
 4  0