×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
شتيوي العطوي

ليالي "دمج" ( 4 )
شتيوي العطوي

" يمشي وينتظر أن يحدث شيء ما، في مكان ما, لكي يحصد الجوع في عام القحط, لكي يغني للمحروم والبائس أغنيته الحزينة/ القديمة " . ( لحن حزين على أوتار مستعارة - محمد محضار 23 نونبر 1978م ).
وبعد :
أجمل الأوقات هي تلك التي أكون فيها في خلوة مع نفسي، أوقات ليست بالطويلة .وفي هذه الليلة غادر رهطي البيت في زيارة وبقيت أنا وحدي . كانت فرصة لترتيب نفسي وأقيس عرضي وطولي ووزني . يبدو المكان هادئا بعد أن شهد صراعا بين الأولاد على محاور قطاعات البطاطا ودوائر المعكرونة في الوقت الذي كنت أنا وأم العيال نجري مباحثات السلام حول صحن الجريش !
أخذت أجول في أركان البيت كمن يبحث عن شيء مفقود، فتذكرت رواية كنت قد بدأت كتابتها وعليّ أن أكمل أحد فصولها، فكانت " فيروز " حاضرة بصوتها، وجلست أستمع إليها . كنت أشعر بأن " فيروز " تتحدث عن بعض فصول الرواية " يا دارة دوري فينا " وتلك كانت البداية، لكنها ليست كبداية فيروز، لا مكانا ولا زمانا، ويكبر الناس وتبقى فيروز صغيرة !. وحين حضرت العفاريت للمساهمة في كتابة النّص، سمعت صوتا من بعيد وكأنه يناديني، فتركت فيروز والرواية والعفاريت، ودخلت المطبخ أبحث عن بقايا طعام أسدّ به جوعة جارتي . تلك الجارة التي آنس بها وتأنس بي . كم هي رائعة وهي تستقبلني حين أطل من بعيد، وكم هي رائعة حين تشيعني إلى أن أتعلق بالطريق السريع .
هنا وتحت جذع أثلة اتخذت لها بيتا تدافع عن حماه بكل شراسة ، جحر تضع فيه صغارها . علمت بفطرتها السليمة أن " السكن فكر " حتى قبل أن يفكّر الإنسان في ذلك، وأن الحياة يمكن أن تسير بأقل التكاليف . ربما كانت تهزأ مني حين كنت أضع قضبان الحديد في الأرض وأفرغ عليها الكثير من الأسمنت لكي أصنع لي بيتا يليق بمقام قوانين الأرض، ولا يشوّه جمال تلك القصور الشاهقة !. ثلاث سنين وهي تنظر إليّ وأنا أضع حجرا فوق حجر، لعلي أبلغ سببا من أسباب حياة كريمة تجعل " وزير السعادة " ينفجر سعادة ويعلّق في رقبتي عقدا يحمل كلمة " happy" فأكون حينها من زمرة السعداء في هذا العالم . ذلك ما ينقصني أن أضع تلك اللوحة على صدري أو على مؤخرتي . لم تنتظر " بنت الكلب " قوانين السعادة فسلكت أقصر الطرق المؤدية إلى السعادة الحقيقية . لم تعبأ بقانون الجاذبية الأرضية ولا بالضغط الجوي ولا بمعادلات أنشتاين أو نيوتن ولن تعبأ بشبكة الضغط العالي الذي سيمر من فوق رأسها، فهي بفطرتها ستدرك الخطر من ذلك وسترحل إلى مكان ما دون أن تطلب تصريحا ببناء جحر آخر لكن ماذا عني أنا ؟، أنا الذي لم يفهم بعد قوانين الحياة ولم يدرس جيدا نظرية " السكن فكر " .لا بد وأنني اليوم أكثر قناعة بنظرية التطور، ليس من قبيل الخلق، بل من قبيل المعاملة من حيث حقوق الانسان. تلك النظرية التي شغلت العالم . ولا يهم إن كان أصل الإنسان " قرد " ، ولا أن القرد ابن عم الإنسان . الحقيقة أن هناك من يعامل البشر على أنهم مجموعة قرود .
وهنا أعود إلى قصة جارتي " الكلبة " لكي أتعلم منها الكثير من النظريات والأخلاقيات . رأيتها وهي تحضن صغارها غير أبهة بصوت الكلاب من حولها . هكذا هي الرحمة ! . وبينما كنت أراقب تلك الصورة الحنانية، تذكرت صورتي ذات يوم حين كان السكن فكر . لم يكن جحرا، بل كان " طور " تجويف صخري بين هضاب حمر وغرابيب سود . كان ذلك قبل أن أعرف هندسة البناء . ولأن البشر يحبون السّتر، لذلك وضعت أمّي رواق البيت على فوهة " الطور " لا بد وأنه كان سكنا مؤقتا ألزمت الحاجة إليه في فصل الشتاء، ولم تحتجّ قوانين الطبيعة على تلك العشوائية ولم تنذرنا تلك اللّجاليج بالإزالة . وكنت سعيدا بذلك السكن . فأنا ابن " المغارة " ابن " الطور " ابن " بيت الشعر " وحين أقصّ على أولادي طرفا من سابق حياتي يتعجبون ويضحكون ويسخرون . لا بأس فالغاية تبرر الوسيلة !
هنا وحيث أنا في " دمج " تبدو لي صورة بيت الشعر كأجمل صورة رأيتها في حياتي . ذلك البيت الذي يستحق أن أطلق عليه " بيت الحريّة " . وعهدي به وقد طواه الزمان بجانب جدار فلعبت به القطط والفئران . ذلك البيت الذي جمع ما بين حضنته ورواقه أجمل قوانين ونظريات البشر . لا أريد أن أستدمع عيناي الآن، فأنا بحاجة إلى دموع . دموع لا تبكي أسفا لماض تولى، بل لحاضر أعيشه في عالم كادت أن تفقد فيه الرحمة، وأصبحت " الأنا " تطغى على كل شيء . كنت أظن أن الإنسان السويّ هو وحده من يشعر بمآسي الآخرين، وكنت أحسب نفسي من أولئك، وإذا بالكلبة تلقني درسا في مفهوم الرحمة فاستصغرت نفسي . ذلك أن كلبة أخرى قد وضعت صغارها في مكان قريب، وفي أحد الأيام غادرت صغارها بحثا عن طعام ولم تعد، فقامت الكلبة التي أتحدث عنها برعاية تلك الصغار، وأخذت ترضعهم مع صغارها، فكانوا جزءا منها . وفي أحد الأيام ألقيت لها الطعام، وهي بالعادة لا تأكل أبدا حتى يشبع صغارها وصغار الكلبة الأخرى، إلا أنها هذه المرة أخذت قطعة لحم وذهبت بعيدا عن الجراء، فظننت بها سوءا، فتابعتها وإذا بها تلقي قطعة اللحم إلى جرو ليس من أولادها، بل من أولاد الكلبة الأخرى . ليس هذا فحسب بل إنها أخذت قطعة أخرى ودفنتها بالقرب من ذلك الجرو . ربما أدركت بفطرتها أن الجرو مصاب بعلّة وأنه يحتاج فيما بعد لتلك القطعة من اللحم . لا أستطيع أن أسجل شعوري هنا غير أني أدركت أني لم أصل بعد إلى مرتبة تلك الكلبة في فهم النظرية والتطبيق .
وهنا في هذا العالم من لا يرحم ضعف الضعفاء، ولا يعبأ بهم ويلاحقهم بنظرياته وقوانينه المعتلة لكي يسحقهم من على وجه الأرض ليبقى هو وحده يستمتع بجمال الحياة .. حيث الدنيا ترقص على إيقاعات " السح والدح " . كان لا بد لأولئك العشوائيين " أصحاب العشوائيات " أن يبقوا حيث كانوا ذات يوم إلى أن تتفتق ذهنية أصحاب النظريات بنظرية " خيمة وبيت شعر " بعيدا عن هذا الجمال . لا بد وأن يدرك أصحاب النظريات أنهم هم العشوائيون . هم من أسس بنظرياتهم لتلك العشوائية . كان لا بد لأولئك المساكين " العشوائيون " أن يحفروا لهم جحورا في الأرض حتى لا ترى سوأتهم تلك المدينة .
لم تنته قصة تلك الكلبة التي تستحق أن أطلق عليها " أم اليتامى "، لكن الوقت أدركني، فأختم بمقولة صاحبي سالف الذكر " المدينة خالية إلا من بنايات بيضاء تشهد أن الليل قد مات قبل أن ينتحر" .
وهنا نقطة في آخر ضمير قوانين الأرض .
والسلام
بواسطة : شتيوي العطوي
 12  0