×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
شتيوي العطوي

اغتيال حلم.. محاولة أخيرة!
شتيوي العطوي

كان ذات يوم في إحدى نواحي هذا العالم المليء بالتعساء، وكانت هناك طفلة تحمل على صدرها صندوقا صغيرا تعلّقه بحبل على رقبتها، وكان صوت المدينة يطغى على صوتها وهي تنادي،لا بد وأن الحاجة أخرجتها من بيتها لتصارع زحمة العاصمة في هذا الصباح.

لقد ملأت براءة تلك الطفلة كيانه، ولم يعد يرى في المكان غيرها، ولا يسمع صوتا غير صوتها. لم يعد ينظر إلى مباني المدينة المزخرفة الشاهقة ولا إلى أسواقها العامرة . رأى طفلة تسكن في قلبها مدينة من الأحلام وحين اشتدّت حرارة الشمس،لجأت إلى ظل متجر،وجلست بجوار بوّابته على الرصيف ترتاح، وكانت تغني أغنية طفوليّة، وتحسب بين يديها الصغيرين تلك" الفكّة". لا بد وأنها كانت سعيدة بذلك الفتات،فخرج صاحب المتجر فرآها جالسة فطردها،ربما ظن أن وجودها يشوّه منظر المتجر،فقامت تنفض ثوبها،وحملت صندوقها ومشت تنادي. وعند الإشارة الضوئية اقتربت من صاحب تاكسي، فأغلق النافذة بينه وبينها. ربما لم يكن بحاجة إلى " علكة " بالنعناع.

في المدينة يبحث التعساء عن أحلامهم في شوارعها المليئة بلوحات الدعاية والإعلان، ومن بينها لوحة " حقوق الإنسان " لوحة متهالكة كتهالك حقوق الإنسان في هذا العالم على بوابة مغلقة بزرفيل كبير. ربما يفتح أبوابه في اليوم العالمي لحقوق الإنسان، فيأخذ المحتفلون المتخمون صورة تجسّد الإنسانية بطعم الطرطة التي لن يذوق حلاوتها أولئك الغلابا.
كان يراقب تلك الطفلة،وفي ذهنه صورة ابنته الصغيرة، فذهب به الخيال بعيدا، فكادت تلك الطفلة أن تغيب عن ناظريه، فلحق بها، واشترى منها كل ما يحويه ذلك الصندوق وهي تنظر إليه بدهشة. وقبل أن تنصرف ناولها مبلغا من المال لكي تشتري به ثوبا جديدا، فشكرته وذهبت وهي تنظر إليه حتى توارات بين الزّحام.

لم يكن بحاجة إلى تلك البضاعة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، لكنه أراد لتلك الطفلة أن ترتاح ولو ليوم واحد تمارس فيه طفولتها في بيتها،فحمل البضاعة وركب التاكسي إلى الفندق وفي ذهنه صورة تلك الطفلة البريئة، وسأل نفسه إن كانت هي الوحيدة في تلك المدينة.

لم يغب عنه مشهد صاحب المتجر وهو يطرد تلك الطفلة بعيدا عن متجره، تلك الغطرسة التي ذكرته بقصة أخرى في هذا العالم الذي يسحق فيه الضعفاء حيث يقول صاحبها: كنت ذات يوم من أهل السلطة والنفوذ وكنت لا أرى أحدا في عينيّ، وفي ذات يوم نظرت من شرفة منزلي فرأيت " كشك " أقامه صاحبه يبيع فيه القهوة والشاي والساندويش، وكنت منزعجا من وجود ذلك الكشك الذي يمثل في نظري تشويها لجمال المكان المحيط بي، فعزمت أن أهدمه على رأس صاحبه، وفي اليوم التالي عدت من عملي، وقبل أن أصل منزلي توجهت إلى ذلك "الكشك"وأمرت حرّاسي أن يهدموه، فجاءني صاحب الكشك يرجوني، فدفعته بيدي، فسقط على الرصيف فقال لي: اتق الله !فكانت آخر كلمة سمعتها قبل أن أغادر المكان.

رجعت إلى بيتي، فشعرت بضيق في صدري، ولم أعد قادرا على كلام أحد، فسألتني زوجتي، فأخبرتها، فقالت: ما عليك، يغور في ستين داهية ! هوّه مين اللي يعكنن عليك مزاجك يا سعادة باشا ؟!

كانت زوجتي تحدثني وصوت ذلك المسكين وهو يقول "اتق الله" يصرخ في أعماقي، فأصابني في تلك الليلة الهمّ والغمّ والأرق، فانطرحت على السرير، ولا أدري كيف نمت، فحلمت أن القيامة قد قامت، وأني دخلت نار جهنم، فقمت فزعا، وإذا بظاهر يدي التي دفعت بها ذلك المسكين تحترق، وأشم منها رائحة شياط اللحم، فعلمت أن ذلك عقاب من الله معجلا.

لقد قتل ذلك الرجل حلم صاحب" الكشك " كما قتلت أحلام الكثيرين من الضعفاء؛ وإلى أولئك الذين يشنون الغارات على أولئك المساكين ويطاردونهم في أرزاقهم نقول: اتقوا الله. اتقوا الله في الذين لا حول لهم ولا طول، أولئك الذين يبحثون عن لقمة عيشهم تحت أشعة الشمس الحارقة والبرد القارس. أولئك الذين منعهم الحياء أن يكونوا متسولين على الطرقات. وإذا كان وجودهم يعدّ تشويها لجمال المدينة، فاصنعوا لهم مكانا جميلا يليق بإنسانيتهم، أم أن الأمر تجاوز حدّ الجمال إلى مزاحمة أصحاب الكروش في كروشهم.
والسلام
بواسطة : شتيوي العطوي
 6  0