×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
فهد العبيدان

رجل من تاريخ تبوك وحالة عمّار !!
فهد العبيدان


رجل من تاريخ تبوك وحالة عمّار !!
الحمد لله على كل حال ، لا أعلم من أين أبدأ وماذا سأكتب وعلى ماذا سأختم ، لقد رحل رجلٌ يصعب لمثلي أن يكتب عنه ، وإن كتبت فحتمًا لن أوفيه جزء من حقّه ، ولن أبالغ ، فمحبيه يدافعون عنه أكثر .*
لقد رحل والدي الذي طالما لازمته بطفولتي*
لقد رحل والدي الذي أتّبع خطواته بمراهقتي
لقد رحل والدي الذي طالما لازمته برجولتي
لقد رحل صديقي الذي أئتمنه سري وأشاوره بكل كبيرة وصغيرة
لقد رحل أحد " أخوياي " بالسهرة*
لقد رحل الرّاوي وعَبَق التاريخ*
لقد رحل الحكيم والأمثال وأجمل القَصَص و " السوالف "
لقد رحل الصّلح والجاهَة وأعمال الخير
لقد رحل الحنان والعطف والحنكة
لقد رحل السّحاب وأخبار الأمطار والسيول
لقد رحل سهيل والمربعانية والربيع*
لقد رحل البرق والرعد والعقربان*
لقد رحل القنص والرحلات والبر والجبال والأودية
لقد رحل الدواء والأعشاب و الكَي و " المحاوِر "*
لقد رحل الضحك والطرافة ورجل المواقف*
لقد رحل السؤال والاستفسار والمشاورة
لقد رحل الصّابر المحتسب*
لقد رحل الشّاكر الحامد*
لقد رحل الموسوعة*
لقد رحل " أبوي " رحمه الله*

مع كل رحيل قصة وموقف ، فهل أوفيه حقه ؟! بالطبع لن أكتب إلّا قطرة في بحر ، وورقة في مكتبة ، وسطرٌ بين مجلّدات .

إنه " أبوي " محمود بن محمد العبيدان ، كما يُعرف بين النّاس بـ " أبو محمد " ، تربّى وترعرع في تبوك ، بين القلعة وعين السّكر ومسجد الرسول - كما نسميه - ، أو كما يسمونه حديثًا " الجامع الأثري " ، دعوني أعرج قليلًا لجدّي محمد ( أبو عيسى ) رحمه الله ، فله الأثر الأكبر في حسن سيرته ، فقد كان مؤذنًا امسجد الرسول ما يزيد عن 50 سنة ، ومن كان والده مؤذّنا حُقّ له أن تكون سيرته من أجمل السيّر على ما تربّى بين الله أكبر وقد قامت الصلاة ، يذكر لي والدي رحمه الله أن بطفولته كان يقوم بتنظيف المسجد صباح كل يوم جمعة مع عمي إبراهيم أطال الله بعمره للخير جَبرًا بأمرٍ من والده ، فمن كانت طفولته بالمسجد حتمًا ستكون سيرته تعجّ بأعمال الخير والصلاح ، إنها التربية الدينية التي افتقدناها مع الأجيال التالية .
كان والدي رحمه الله محبًّا جدًّا لأعمال الخير مهما كانت شاقة وبالطبع على قدر استطاعته ، فمنذ طفولتي كنت أراه يوزع الأرزاق على البيوت ولا أعلم ما هذا ولماذا ! ولا أسمع من أهل البيت إلّا " هلا والله بأبو محمد " !
حينما كنّا في حالة عمار كان رحمه الله يُورد الماء من ارتواز " ذات الحاج " ويقوم بسقيا " البرك " الخاصة للإبل في ذات الحاج وخلف شركة الكهرباء ، ثم يقوم بتعبئة خزانات جميع جيرانه ، كنت معه رحمه الله في كل ما سبق وكأني أراها رؤيا العين وكلي سعادة وأنا بـ " الوايت " ، ومن المواقف : جارتنا " أم يزن " كانت جديدة على الحي ولا تعرف والدي ، فلما طرق الباب ونادى " يا بنت " ، كانت وجِلة وأشعرها بوجودي معه لتهدأ ، ثم فتحت الباب وقمنا بتعبئة الخزان ، فلما سألت زوجها فيما بعد ، قال لها : هذا جارنا أبو محمد " حياه الله بأي وقت " .
لازمته بطفولتي في مجلسه ومجالس أصدقائه وكنت أسمع دومًا الترحيب الشديد والفرح بقدومه ، مما ربّى في نفسي الثقة بالنفس والإعتزاز دومًا بوالدي رحمه الله .
في جعبتي الكثير والكثير من مواقف الطفولة ولكن أكتفي بأنّي أذكر اللحظة الأولى التي رأيت بها صديقه الشيخ عدنان رحمه الله في جامع حالة عمار ، سأل الشيخ والدي ما اسمه ، ثم سألني : ماذا تحفظ من القرآن ، فقرأت له سورة الناس بطريقة طفولية ، وكانا يضحكان على طريقة قراءتي ، وقد كتبت مقالًا عن الشيخ عدنان رحمه الله بعنوان : رجل من تاريخ حالة عمار .
ومن أصدقائه الخاصين في تلك الفترة : فرحان العليين ووالده سحمان عليهم رحمة الله ، فلهم حقٌّ علي بذكرهم لينالوا الدعوات .
ومن المجالس التي يتردد إليها ، مجلس حميّر العطوي رحمه الله المعالج بالكَي المعروف وخضر العرجان أطال الله بعمره للخير وخضر أبو ذياب العمراني رحمه الله والكثير الكثير ...
وأعتذر لبقيّة أصدقائه فالقائمة أطول مما تعتقدون .
ولا أنسى أنه رحمه كان يقوم بإيصال المصاحف لجامع حالة عمار في موسم الحج ، ويتم توزيعها على الحجاج من قِبل الشيخ عدنان رحمه الله وطلابه ، هنا أكتفي بمرحلة حالة عمار .*

في تبوك لازمته كرجل ولا أخفيكم كنت كالطفل ملازم له رحمه الله ، أينما يذهب أكون معه لأتعلم منه وأتابع حالته الصحية وألبّي طلباته ، وكنت أرى بعينه إعجابه بذلك ، ويفتقدني إذا لم يراني أو أسأل عنه ويتصل : " وينك ماني شايفك " ، كنت أراهٌُ والدًا و صديقًا ، مجلسنا واحد فبعد صلاة المغرب نتقابل بمجلس صديق الطفولة العم صالح بن رضا رحمه الله ، حتى بعد وفاته مجلسه عامر وبشكل يومي .*

كان رحمه الله مهيبًا رزينًا عزيز النفس ذو ذاكرة قوية ، يذكر تفاصيل قد لا تخطر على بال المستمع ، كان مرجعًا لمن بعده حول تاريخ تبوك وأسرهم وعوائلهم ،.
كان محبًّا للبر والقنص والصحراء ومرجع الكثير بأسماء المناطق والجبال والأودية والأعشاب ، فضلًا كان مرجعي الوحيد حول ذلك كله رحمه الله .*
أذكر أنني ذهبت لمنطقة صحراوية جديدة علي ، وذهبت لوالدي أحدثه عنها معجبًا بنفسي وأسأله " جيتها يابوي ؟ " وكان ردّه " يا هملالي ، كنا نحتطب منها على حمير " ، ومن قصص المقناص أنه ورفيق دربه صالح بن رضا كانوا في رحلة مقناص في عز شبابهم والسائق " المهيب " العم علي بن رضا رحمهم الله جميعًا ، وقد اصطادوا سبع ظباء والثامن لم يستطيعوا صيده ، فما كان من العم علي إلا توبيخ أخوه صالح ووالدي رحمهم الله قائلًا : " لابوكم لابو من أخذكم معه وأعطاكم سلاح " وقد كان يكبرهم سنًّا ، سمعت القصة منه وهو معجب بهيبة صديقه العم علي .*
كان والدي رحمه الله يعالج عن داء " أبو الوجيه " أو كما يسمى " البريقع " ، وكان يتوافد عليه الكثير من الناس ليتعالجون عنده من شتى المناطق ، وعلاجه بالماء والزيت ثم الكَي بـ " المحاور " ، وكنت أرى ذلك وأتعلم منه وأجهز له الأدوات .*

أما أعمال الخير في تبوك كان يحمل الأرزاق من حر ماله أو من فاعلي الخير ويقوم بتوزيعها على الفقراء والمساكين من المواطنين أو الوافدين العرب والعجم ولا يهمه عرق المحتاج ، فجميع الناس عنده سواسية ، وكثيرًا ما يزور المرضى في منازلهم أو المستشفيات ، وأذكر اهتمامه الكبير بزيارة العم إبراهيم أبو مازن الذبياني رحمه الله في مرضه ، والعم سليمان بن عيد الحويطي أطال الله في عمره في منازلهم وتشديده لي بزيارتهم بالمناسبات خاصةً الأعياد ، رحمه الله كنت أعتمد عليه بتوصيل زكاة الفطر والصدقات بدون منّة على الله .*
بعد صلاة فجر كل يوم يزور صديقه القديم رجل الأعمال العم عبدالعزيز العجاجي أطال الله في عمره ، وكان والدي رحمه الله مشرفًا على بناء جامع العجاجي في تبوك القديمة " حي أم درمان " أو كما يسمى حاليًّا " جامع عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما " .*
ولا أنسى صديقه العزيز العم محمد سليم الجهني والذي يحمل له حب الصداقة العميق ، وكم وصّاني بالسؤال عنه والسلام عليه ، حتى طريقة السلام كان يدقق بها لعظيم مكانة عم محمد ، فضلًا أنه أخوه من الرضاعة وصديق الطفولة .*
أظن أنني استرسلت وما زال بجعبتي الكثير ولربما أكتبها للتاريخ في غير زمان ومكان ، وأختم بخاتمته رحمه الله .
قبل رحيله بشهر رأيت رؤيا عظيمة ، علمت يقينًا أن والدي راحل قريبًا لا محالة ، وكنت أعزيه في حياته بشكل يومي ، وأنتظر اليوم الموعود ، حتى أصيب بوعكة صحية زرنا على إثرها المستشفى ورفض حينها الجلوس بالمستشفى رغم تحذير الأطباء له ، وقال لي حينها : " يا فهد أنا ميت ميت ، جدّك مات ، ما أبغى أموت بالمستشفى ، أموت عند عيالك " ولم يستمر بعد وعكته كثيرًا حتى جاء يوم الرحيل بتعرضه لوعكة هي بالأصح سكرات الموت بتاريخ 1439/7/8هـ ، وبعشيّة رحيله كان صحيحًا معافى عند أصدقائه بكامل قواه كعادته .
والدي رحمه الله لا أقول عن موته إلّا " مات واقف " ، والحمد لله على كل حال .*
والدي رحمه الله قبل وفاته كان يعلم يقينًا بدنو أجله ، فقد رؤى رؤيتين :*
أمّا الأولى فقد رأى أمه " جدتي " تضحك وتقول له مبروك .
الرؤيا الثانية رأى في المنام صديقه العم صالح بن رضا رحمه الله يناديه .
ومن المبشرات : توافد جم غفير للصلاة عليه وبالمقبرة وبالعزاء ، من الأهل والأصدقاء وأهالي منطقة تبوك بشتى أطيافهم ، من مسؤولين ورجال أعمال حتى العمّال - ولا أستنقصهم - ، حتّى تفطّرت قدماي من السلام ، وهم شهود الله في الأرض .*

ومن المبشّرات : بعد رحيله رأى أحد أصدقائه وهو أبو عبدالرحمن أحمد الجربوع أنه في بيت شَعر كبير يضم كل أصدقائه ، وقد مر والدي بمنتصف البيت ويسأل أبو عبدالرحمن : " مريض أوديك المستشفى " وقال له : لا الحمد لله ، كان والدي حينها أبيضًا مشرئبًّا بحمرة - وهو خلاف ذلك بالواقع - يلبس غترة بيضاء . انتهت الرؤيا ، ولا أظن الرؤيا تحتاج لمفسرًا حاذقًا .
ومن العجائب تاريخ رحيله هو نفس تاريخ يوم زواجه :
زواجه يوم الأحد 1394/7/7 هـ*
رحيله يوم السبت 1439/7/7 هـ*
زُفّ للجنة بإذن الله*

وداعًا " يابوي " سأفتقدك كثيرًا وأشتاق إليك أكثر*
وداعًا يا صديقي سأفتقدك بالمجلس*
وداعًا يا " خُوي " البَر
وداعًا يا رفيق الدّرب
وداعًا يا أمين السّر*
وداعًا يا شريك الهوايات والطّبع

رحمك الله وغفر لك وجمعني وإياك وجميع المسلمين بالفردوس الأعلى .*

تم إطلاق هاشتاق بتويتر لمحبيه ولمشاركاتكم :
#عنمحمودالعبيدانابومحمدرحمهالله

دمتم محفوفين بوالديكم ،،،
حرّر يوم السبت : 1439/7/14 هـ .
بواسطة : فهد العبيدان
 7  0