×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
فهد العبيدان

"محمود العبيدان" في أسطر!!
فهد العبيدان

نزولًا لتعليق أخي ضيف الله العطوي بمقالي السابق " رجل من تاريخ تبوك وحالة عمار " ، وذلك برغبته ولمن حولي بأن أكتب حول والدي رحمه الله ، والسرد عن أعمال الخير والحياة المجتمعية ليكون قدوة ومثالًا يحتذا به لمن خلفه ، في زمن تفطّرت الأقدام خلف الدنيا ، أكتب هذا المقال ، وعسى أن يكون أجرًا لوالدي رحمه الله بعد رحيله ولصاحب الفكرة أخونا العزيز .

لله تعالى : هي أشهر كلمة يقولها والدي رحمه الله عند عمل الخير ، وعند سؤال الناس له ، لماذا فعلت كذا وكذا ؟! فردّه : " لله تعالى " وَ " أجر عند رب العالمين " .
قبل وفاة والدي رحمه الله بأسبوعين تقريبا ، شاهدت شجرة بفناء المنزل قد زرعتها له ، فيها الكثير من الفوائد الطبية ، قد قُطف أغلب أوراقها وثمارها ، فاستبشرت خيرًا باهتمامه واستخدامه لها ، رغم يقيني خلاف ذلك ، فسألته عن ذلك ، فقال : " للعمّال " ، فغضبت أنها لم تكن له ، وقلت له أنها خاصة به ، ولغاية لي ببذورها وتوزيعها لرابطة تبوك الخضراء لزراعتها بمنطقة تبوك ، فقال ضاحكًا : " يا ولد ، كلها أجر ولله تعالى " .

كان الناس قديمًا وقبل انتشار المسالخ يعتمدون عليه بنحر الإبل لحاجتهم بها أو لتوزيعها على الفقراء والمساكين ، وكان يقول : " لله تعالى " ، وأملك مقطع فيديو يذكر إحدى تلك القصص ، أحتفظ به .
كل يوم أكتشف عملًا خيريًّا جديدًا لا يتحدث عنه ، وآخرها تكفله بإفطار عمال النظافة بالحي بشكل يومي ، فضلًا عن تقديمه فِطرة رمضان بجامع العجاجي ، وتوزيع المياه على الجوامع .
وقد كان رحمه الله يوصل الأرزاق للأسر المحتاجة ، ويختار منهم المُعدمين ، وأذكر كان حريصًا على أسرة رجل سوداني طاعن بالسن وفقيرًا وعاجزًا لا يعمل ، وغيره الكثير .
حينما كان يعالج الناس عن مرض " أبو الوجيه " ، يحاول المريض أن يُعطيه أجرًا لذلك وكان يقول : " روّح روّح هذي لله تعالى " .

الأمانة : كان والدي رحمه الله أمينًا بل وحريص على أموال الدولة ، وقد كان رحمه الله مدير الصيانة لجمرك حالة عمار ، وكان يؤمّن قطع الغيار للسيارات من تبوك ، ولا أنسى وأنا طفل ذهبنا لإحدى الوكالات لشراء قطعة ، وكان سعرها 700 ريال ، وهذا مبلغ كبير في تلك الأيام ، فرفض وذهبنا لـ " التشليح " واشترى نفس القطعة بـ 50 ريال فقط ، رغم أن الأموال تُدفع من ميزانية الجمرك ، رغم كرمه إلا إنه الحرص على أموال الدولة ، هكذا تربينا بالقدوة .
كان قديمًا في حالة عمار مكلّف بالإعاشة لمنتدبي الدوائر الحكومية ، ورغم قدرته على توفير كثير من الأموال لصالحه ، إلّا أنه كان يقدّم أفضل شيءٍ للمنتدبين ، بل لا يرفض من يحضر من أهالي حالة عمّار طالبًا إحدى الوجبات ويسعد بذلك كثيرًا ويستوصي بهم خيرا ، وقد كانوا كُثر ، وبالطبع شهدت ذلك بتفاصيله وكأنها بالأمس .
وقد كان حريصًا على عمله ، فلا أذكر في حياتي أنه ذهب متأخرًا ، بل يحضر قبل موعد العمل ، حتى أن الجمرك تعاقدوا معه بعد تقاعده لخبرته لأكثر من 35 سنة .

الكرم : في هذا المجال حدّث عنه ولا حرج ، فقد كانت متعته حينما يرى الناس في بيته ، ويوم يرى ضيوفه وضيوف أبنائه في مجلسه رحمه الله ، وكان أول سؤال بعد السلام : " تقهويتوا ؟ ، تعشيتوا ؟ " ، وكعادة العرب مع ضيوفه يُقدّم لهم أنفس الطعام والشراب ، من ذبائح وقهوة وشاي حتى الفواكه ، بلا إسراف ولا أدنى هياط ، وأتحفّظ على بعض القصص والمواقف ، فلم يَمُن في حياته ولن أذكرها بعد رحيله .

صلة الرحم : كان رحمه الله يلبّي أي دعوة تُقدّم له ، وكما جاء بالبخاري ، قال صلى الله عليه وسلم : " إذا دُعِي أحدُكم إلى وَليمَةٍ فلْيأتِها " ،
كان رحمه الله يسافر من مدينة لأخرى لتلبية الدعوة ، خاصة من ذوي القربى ، ويزور ويسأل عن إخوانه وأخواته ، وأذكر أنه قدّم شيئًا من الأرزاق لإحدى عمّاتي ، فسألته مستفسرا : " ليش يابوي وزوجها موجود " ، فقال : " يا ولد ، أنا مسؤول عنها ، وما علي من زوجها " .
كان حريص جدًّا على أخته الكبرى والتي تسكن بالمدينة المنورة ، وحينما تقدم إلى تبوك ، أهرع لإخباره لعلمي بفرحه بذلك ، ولا ينتظر كثيرًا ويذهب للسلام عليها .

الدِّين : كان والدي محافظ جدًّا ، وكما ذكرت سابقًا نتيجة تربيته من جدي المؤذن رحمهم الله جميعًا .
في حالة عمار كان يشهد صلاة الفجر حاضرًا في جماعة ، ويحرص أن يكون أبناؤه معه باستخدام المحفزات ، بتعليمهم السواقة أو الذهاب للسوق ، وبعد الصلاة كما هي عادة الشيخ عدنان رحمه الله ، نقرأ جزءًا بعد صلاة الفجر على هيئة حلقة - وهذا ما افتقدته في تبوك - ، بواقع صفحة لكل شخص ، وكان الشيخ رحمه الله يصحّح لنا الأخطاء قراءةً وتجويدًا .
كان يحافظ بشدة على أذكار الصباح والمساء حتى وفاته ، فكل مكان في منزله أو سياراته يوجد كتيّب حصن المسلم ، وكان حريصًا على حضور مجلس الشيخ عدنان رحمه الله يوم الثلاثاء بعد العشاء ، وكنت معه حينها طفلًا ، ولا يخلو مجلس الشيخ رحمه الله من القصص والسيرة والفقه ووجبة خفيفة بنكهة شاميّة ، ولا تعتقدوا أنه مجلس رسمي ، فالشيخ رحمه الله كان ما يميزه الإبتسامة والطرافة والألغاز والقليل من الكلام بأحداث الدنيا .
في تبوك كان حريصًا أن يصلّي الظهر في جامع الدعوة للصلاة على الجنائز ليفوز بالقيراط .
ولن أنسى أنه رحمه الله قد قام بتحفيظي قصار السور ، وآية الكرسي وخواتيم سورة البقرة والكهف ، وباستخدام المحفزات بمبلغ رمزي نراه كأطفال مبلغ كبير ، فله الأجر بإذن الله .

الإخلاص لأصدقائه : والدي رحمه الله مخلص جدًّا لأصدقائه في حياتهم وبعد رحيلهم ، فكثيرًا ما يترحم عليهم ويذكرهم بالخير في " سواليفه " ، ويهتم بشدّة بمناسباتهم ومناسبات أبنائهم ، ويكون أول الحاضرين ، وكعادته رحمه الله الحضور وحده لا يكفي ، بالتأكيد يقدم مساعدته بالعمل بنفسه أو بالمال ، وكان يحمل كل الوِد لأبناء صاحبه الخاص العم صالح بن رضا ولأحفاده ، فكما كان يعطف على أحفاده من صلبه كان نفس العطف لأحفاد صديقه ، أما يكفي أن يحملهم لـ " البقالة " للشراء وهو بهذا السن ؟! ، فضلًا عن مداعبتهم .
كان يحضر بعض المناسبات ، وأسأله : لماذا مهتم بالحضور لهذا الشخص ؟ فيقول : " يا ولد هذا ولد فلان الله يرحمه رفيقي بأول الزمان " .

الشهامة : كان رحمه الله شهمًا ، فقد سمعتها كثيرًا من الناس ، بل اعتدت على سماعها ، فقبل انتشار المطابخ أو كما يقول والدي : " بأول الزمان " كان أصدقاؤه وجيرانه القدامى والأهالي يعتمدون عليه بطبخ ولائم الزواجات برفقة أصدقائه - بل يفزع في ذلك دون طلب - كما أسميهم " أصدقاء الشّقى " ، وقد شهدت ذلك وكنت طفلًا حينها ، وأذكر منهم لا على سبيل الحصر :
فهد خير الله الشمري ، ونواف الدخيل ، وعمر الدويرعات وغيرهم، رحم الله الحي والميت منهم .
وهل يرحلون أصدقاؤه ولا يكون أول من يجهزهم وينزل في قبورهم . !! وأذكر آخر من نزل في قبره رحمه الله ، قبر صديقه العم صالح رحمه الله قبل خمس سنوات تقريبًا ، رغم كبر سنّه .
يخبرني عمّي أطال الله بعمره ، كان والدي في أول شبابه يملك صندوقًا كبيرًا خاصًّا للمعاميل الخاصة للقهوة والشاي ويعيرها للأهالي لمناسباتهم .
وذكر لي جارنا وأخي الأكبر التي لم تلده أمي علي فالح البلوي ، أن أمّه " أم علي " عافاها الله كانت في حالة مخاض و " طلق " ، ووالده أطال الله في عمره لم يكن موجودًا حينها ، وفزع والدي وذهب بها للمستشفى ، وولد لهم محمد ، وهو الآن معلم في تبوك .
ولخبرة والدي رحمه الله بصيانة السيارات ، كان أصدقاؤه يعتمدون عليه إذا ما تعطّلوا بالطرقات خاصة ، وقد شهدت ذلك على طريق حالة عمار .

المروءة : لقد كان والدي جميلًا بأخلاقه وصفاته ، وقد دعته في شبابه امرأة لنفسها ورفض وولّا من المكان وما حوله ، ولا أجد أي غرابة ، فمروءته ودينه يرفضان ذلك ، لم أشأ أن أكتبها ولكن ذكرتها ليعلم الجيل الجديد ما كان حال الرجال ، وعلى ماذا يُقدمون وعلى ماذا يترفّعون ، ويا حسرتاه على حال الشباب .

زيارة المرضى : كان حريصًا لزيارة المرضى من جميع أطياف المجتمع ، وإن كان شخصًا عزيزًا عليه يسألني : " يا ولد ما زرت فلان ؟! " ، وقد ذكرت الأمثلة بالمقال السابق .

سواليفه : كان رحمه الله له كاريزما وطريقة خاصة بسرد القصص بأسلوب ملفت للأنظار ، وبتفاصيل لا تخطر على بال المستمع ، وغالبًا عن أحوال الناس قديمًا وعن رحلاته ومواقفه مع أصدقائه ولا تخلو من الطرافة ، وأذكر قبل أيام من رحيله وآخر قصة سمعتها منه ، قصة قديمة عن الفرّيسة - على حد قوله - بخيتة العطوي وكم كانت مهيبة وشجاعة ، فسألته عن اخوانها فضولًا ، وأذكر قال : " كلّهم فرّيس " منهم : مهدي وجزاع وهم خمسة أخوة ، ويذكر فروسيتهم وشجاعتهم ، ويعرفهم جميعًا ولهم مكانة خاصة عنده ، علمًا جميعهم ماتوا رحمهم الله ، أذكرها للتاريخ .

الحمد لله : كان والدي رحمه الله كثير الحمد ، لا يعيب طعامًا قط ، ويرضيه ما يُقدّم له ، ويردد دومًا " الحمد لله نعمة " ، ويذكر كيف كانوا قديمًا وعلى أي حال صاروا ، وحينما يتناول عند أحد طعامًا ويتحدث بذلك يحسب المستمع لحديثه أنه على مائدة عظيمة ، وهو مجرد طعام خفيف ، لكنه الحمد وشكر النّعمة ، كم كان رحمه الله بسيطًا يكره الهياط والبذخ .
في حياته مات من صلبه ابن ثم تلاها ابنة في ريعان الشباب وحفيدة ، ثم حفيد قبل رحيله بقليل ، ولسانه ما يفتأ من قول : " الحمد لله هذا أمر العزيز الحكيم " ، ومن العجائب كان لا يذكرهما بحديثه أبدًا بعد وفاتهما رحمهما الله ، لعلمي عدم رغبته بتجديد الحزن على نفسه ، ولكن قبل وفاته بأيام ذكر أخي رحمه الله لأحد أصدقائه من العمالة الوافدة وقد أخبرني بذلك حينها .
كان لا يشتكي مما يصيبه من مرض ، بل لا يَعلم أصدقاء مجلسه عنه إن لم أخبرهم بذلك ليراعونه ، ولسانه كعادته عند السؤال عن حالته : " الحمد لله طيب " ، وكم من المرات أكتشف ارتفاع حرارته حينما أتحسسه رغم إنكاره ذلك ، بل غالبًا يذهب للمشافي دون إخبار أحد رغم استعداد الكل لخدمته .

الصّدق : كان والدي رحمه الله صادقًا مع نفسه ومع الله ، ولم يكذب يومًا ، وكان يقول دومًا : " وش حادك على الكذب " ، وكان يعتبرها نوعًا من خوارم المروءة ، وفي كل مجلس معه أسمع بعض القصص المكررة لكثرة ما صاحبته ، وكانت بنفس الحوارات والأحداث بلا زيادة أو نقصان .

الشفاعة والوجاهة : كان الأهالي والمقربين والأصدقاء يقصدون والدي رحمه الله بالشفاعة الحسنة ، بالوظائف وتسهيل بعض المعاملات ، لمعرفته الكثير من الناس بشتى الدوائر ، و أيضًا " لله تعالى " ، أما الوجاهة فأيضًا كانوا يقصدونه للخطبة والصلح بين الأزواج وتقديمه بالحديث و في حل كثير من المعضلات ، وقد شهدت بعضًا منها .

الشِّعر : كان والدي رحمه الله محبًّا للمحاورة والشعر عمومًا ، ويحفظ البعض من المحاورات القديمة ، ومن الشعراء كما يقول عنهم " بلاوي " : السناني والشاعر الفكاهي معنى البقمي ، وخلف بن هذال وزايد العطوي ، وغيرهم لا تحضرني أسماؤهم حاليًّا ، وكان يحتفظ ببعض القصائد الحماسية المكتوبة لإعجابه بها ، منها قصيدة خلف بن هذال إبان أزمة الخليج ، وقصيدة الشاعر الحارثي التي ألقاها أمام الأمير سلطان بن عبدالعزيز رحمه الله ، وأحتفظ بهما بمكتبتي .
وللتاريخ ، قصيدة الرفيحي المشهورة " ليت لي دكان بالبطين بالجال الشمالي .... من بغى الدكان في وقت الضحى دربه عليّة " بدأها الشاعر عبدالرحيم الوكيل ، وقد كتبها بوجود والدي بجمرك حالة عمار ، إذ كان يعمل والدي والشاعر حينها، ثم أكملها أحد أبناء أبو عايش ، هذا ما سمعته نصًّا من والدي رحمه الله ، لاختلاف الناس حاليا حول كاتب القصيدة ونسبتها للموروث الشعبي فقط ، علمًا تم بعض التغييرات عليها حديثًا . وأيضًا قصيدة الرفيحي المشهورة " وا قلبي يوم غدا بطليح ... خلّنّه البيض شبانة " للشاعر علي العبيدان رحمه الله ، وقد سألته عنهما بنفسي حتى عهد قريب .

أسماء كان يذكرها والدي رحمه الله بـ " سواليفه " ولهم مكانة خاصة ، وللأسف لم أتعرف على بعضًا منهم لكثرتهم ولأشغال الدنيا ، ومن واجبي لوِد والدي رحمه الله ، ذكرهم للترحم على الحي والميت منهم ، وأعتذر مقدمًا لمن سقط من ذاكرتي :
فهد خير الله الشمري ، صالح وأخوه علي بن رضا ، الإميلس ، العجاجي ، أبناء الخطيب ، سعود المصري ، محمد وأخوه عبدالله سليم الجهني ، مدني الهمامي ، نفل الدوسري ، عبدالرحمن الحامد ، عبدالرحمن سلامة الجهني ، فرحان العليين ، حليت الرشيدي ، خلف الشمري أبو دخيل ، فريح الشمري ، حميّر العطوي ، خضر أبو ذياب العمراني ، أبناء العطيات ، أبناء المغربي ، محمد حمزة الحجيري وإخوانه ، خضر العرجان ، عناد الغريض ، عبدالعزيز وأخوه عبدالقادر السحلي ، فهد الشمري ، ابن عاصي ، أبو صحن المطيري ، عبدالله وأخوه علي العبيدان ، أبناء أبو عايش ، أبناء الناصر ، تركي أبو حدة ، حسين الخالد ، عليان الذبياني ، سلمان خضر العطوي ، نايف المطيري ، محمد عبدالله القاضي ، سليمان بن عيد الحويطي ، محمد الشمراني ، شفيق كريشان والكثير الكثير أعتذر منهم مرة أخرى .

المواقف والحديث عن والدي رحمه الله طويل جدًّا ، جلّ حياته خيرًا وبركة ، فلن أستطيع أن أكتب كل حادثة وموقف ، هنا أكتفي بذلك حتى إشعار آخر ...
رحم الله والديني ووالديكم ، وغفر لهم أحياءًا وأمواتا ...

دمتم محفوفين بوالدَيكم ،،،

حرّر يوم الجمعة : 1439/7/27 هـ .
بواسطة : فهد العبيدان
 3  0