×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
الدكتور سعد عبد القادر العاقب

دراسة موسيقية لديوان (أوراق الزيتون)
الدكتور سعد عبد القادر العاقب

دراسة موسيقية لديوان (أوراق الزيتون)
من شعر محمود درويش


قبل أن ننظر في موسيقا الشعر في هذا الديوان، فلننظر في اختيار الاسم ( أوراق الزيتون)، فشجرة الزيتون شجرة مباركة أقسم الله بها في كتابه العزيز(والتِّينِ والزَّيتونِ)، والزيتون من الأشجار التي يعزها أهل فلسطين وما جاورها ، باعتبارها مظهرا طبيعيا خالداً، لذلك اختارها محمود درويش رمزا وعنوانا لديوانه، هذا الاختيار يقودنا إلى القول إن شعراء الوطنية والسياسة، يختارون لدواوينهم أسماء مقتبسة من البيئة التي يعيشون فيها ، ويكاد هذا الامر يطَّرد عند هؤلاء الشعراء، فشاعرنا السوداني صلاح أحمد إبراهيم اختار لأحد دواوينه اسم (غابة الآبُنوس) لأهمية تلك الشجرة في إفريقيا،
صدر ديوان (أوراق الزيتون)، من شعر محمود درويش في العام 1964م، وهو من شعر التفعيلة ، سوى قصيدتين هما: (ولاء) التي جاءت على بحر البسيط المخبون، و (الموت في الغابة) التي جاءت على بحر الكامل الأحذِّ المضمر، ونعلم أنه في الستينيات كان شعر التفعيلة قد انتشر بين الشعراء وجمهور الادب والشعر وفتن به الناس لسهولته، لا سيما أن تجربة التفعيلة قد مضى عليها آنذاك عشرون عاما ، فقد كانت أول قصيد ة تفعيلة في الشعر العربي من نظم العلامة عبد الله الطيب وهي قصيد ة (الكأس التي تحطمت) ، نظمها في لندن عام 1946م ، ثم انتشرت التفعيلة عند الشعراء الذين جاؤوا بعد هذا التاريخ
نظم الشاعر محمود دريش ديوانه الأول (أوراق الزيتون) على نظام التفعيلة ولكنه أحكم هذا الأمر إحكاما جيدا، حتى أن القارئ ليظن أن هذه القصائد التي في الديوان مقفاة وجارية على بحور الخليل بن أحمد ، لأن محمود درويش قد قيد شعر التفعيلة عنده بما يشبه قيود الشعر المقفَّى، أعني بذلك أنه قرّب بين القوافي أو ما يسميه العروضيون حرف الروي، فبعض أصحاب التفعيلة يحكمون الوزن والموسيقا ، لكنهم يهملون القافية، فيطيلون السطر ويكثرون عدد الالفاظ بين حروف الروي، حتى تبدو القصيد ة كأنها بلا قافية، وهذا الامر يدل على ضعف هؤلاء الشعراء ، ويفسد بناء القصيدة، رأى محمود درويش في تباعد القوافي ازورارا عن جودة الشعر ورونقه، وقربا من النثر، لذلك قصرت عنده المسافة بين القوافي في قصائده مثل أولى قصائد الديوان:
الزنبقاتُ السودُ في قلبي
وفي شفتي اللهبْ
من أي غابٍ جئتِني يا كلَّ صلبانِ الغضبْ
بايعتُ أحزاني وصافحتُ التشرُّدَ والسغَبْ
غضبٌ يدي
غضبٌ فمي
ودماءُ أوردتي عصيرٌ من غضبْ
اتخذ محمود درويش في هذه القصيدة ، الباء الساكنة رَوِيَّا لقصيدته وهو ما يسمى(رويا مقيداً) ولا يخفي القرب بين كل باء ساكنة وأختها، وجاءت القصيدة في أولها مقفاة ومن بحر اسمه مجزوء الكامل ووزنه (متفاعلن متفاعلن)، حتى قوله (وصافحت التشرد والسغب)، ثم تحولت القصيدة إلى نظام التفعيلة، يدل هذا على أن الشاعر ظل يحمل في نفسه أثراً عميقا من أثر الموسيقا الشعرية القديمة عند العرب، أعني بحور الخليل بن أحمد، بل إنه يرى هذه البحور أساسا متينا لثقافة الشاعر بالأوزان والموسيقا ويرى إهمالها ضعفا ، وما يدل على ارتباط الشاعر بهذه البحور ؛ أن له قصيدتين في هذا الديوان جاءتا مقفّاتين ، الأولى قصيدة (ولاء) وقد كانت من بحر البسيط المخبون(مستفعلن فاعلن مستفعلن فَعِلُنْ):
حملتُ صوتَكَ في قلبي وأوردتي
فما عليك إذا فــارقت معركتي
فإن سقــطتُ وكفي رافعٌ علمي
سيكـتُبُ الناسُ فوق القبرِ لم يمُتِ
والثانية قصيدة (الموت في الغابة)، وقد جاءت على بحر أقلّ المحدثون من النظم فيه، وهو بحر الكامل الأحذّ المُضْمَر، ووزنه(متفاعلن متفاعلن فَعْلُنْ):
نامـي فعينُ اللهِ نائمةٌ
عنّا وأسرابُ الشحاريرِ
والسنديانةُ والطريقُ هنا
فتوسَّدي أجفانَ مصدورِ
وثلاث عشرة نجمةً خمدت
في درب أوهام المقادير
هذه المدرسة الموسيقية في الشعر، التي تقارب بين التفعيلة والمقفَّى، انتهجها المجيدون من شعراء الحداثة، وقد كانت أيضا مدرسة الشاعر الضخم نِزار قباني، الذي ردد الناس قصائده التفعيلية ، وأهملوا المقفى من شعره، وهو شاعر ذا ثقافة شعرية عربية عميقة، وشعر نزار المقفى لا يقل جودة عن شعره التفعيلي، كقصيدته (الرسم بالكلمات):
لا تطلبي مني حسابَ حياتي
إن الحديثَ يطولُ يا مولاتي
كلُّ العصورِ أنا بها وكأنما
عمري ملايينٌ من السنواتِ
تعبَتْ من السفرِ الطويلِ حقائبي
وتعبتُ من خيلي ومن غَزَواتي
فهذا شبه كبير بائن بين محمود درويش ونزار قباني في أمر موسيقا الشعر.
من الأمور التي دفعت محمود درويش إلى اتباع نظام التفعيلة في شعره، ذلك الانتشار والذيوع الذي ناله هذا اللون من الشعر، خاصة في الشعر الذي يرتبط بقضايا الشعوب ومصائرها، لأن هذا اللون من الشعر ظهر إبان وقوع العالم العربي تحت الحكم الأجنبي المستعمر، فتهافت عليه الشعراء والقرّاء ، حيث كانت موضوعات النضال الوطني ، أشد لصوقا بنفوس العرب من غيرها، فقد توافق ظهور التفعيلة مع استعار الوطنية والسعي إلى الحرية في نفوس العرب،
من الظواهر الموسيقية في ديوان أوراق الزيتون، تعدد التفعيلات في القصيدة الواحدة، مثل قصيدة (عن الشعر)، التي بدأها بتفعيلة (فاعلاتن):
أمسِ غنينا لنجمً فوق غيمه
أمسِ عاتبنا الدوالي والقمر
ثم انتقل إلى تفعيلة (مفاعيلن) فقال:
قصائدنا بلا لونٍ
بلا طعمٍ بلا صوتٍ
إذا لم تحملِ المصباحَ من بيتٍ إلى بيتِ
ثم انتقل إلى تفعيل ة (فعْلن) فقال:
لو كانت هذي الأشعار
إزميلاً في قبضةِ كادحْ
قنبلةٌ في كَفِّ مُكافحْ
وهذه الثلاث من الأوزان الخفيفة السهلة الراقصة، والانتقال من بحر إلى بحر ، لم يطرأ على الشعر العربي مع التفعيلة، إنما له أصل قديم وهو شعر الموشحات الذي يعدد أصحابه البحور والقوافي في القصيدة والواحدة، وقد ظهر أثر التوشيح في شعر محمود درويش، مثل قصيدته(عن الصمود) التي جاء أولها بروي العين المطلقة بالألف :
لَو يذكرُ الزيتونُ غَارسَهُ لــصار الزيتُ دمعا
يا حكمةَ الأجدادِ لو من لحمِنا نُعطيكَ دِرعا
ثم انتقل في جزء آخر من القصيدة إلى روي الراء الساكنة (المقيد):
إنا نحبُّ الوردَ لكنا نــحبُّ القمحَ أكثرْ
ونحبُّ عطرَ الوردِ لكنَّ السنابلَ منه أطهرْ
أختم بالقول إن موسيقى الشعر عند محمود درويش محتكمة إلى قواعد الشعر العربي الأصيلة،فقد اكتفى بإحكام فن التفعيلة ولم ينحدر إلى ما يسمى بقصيدة النثر ، التي أعدها عجزا كبيرا ، وقد حاول أصحاب هذا النثر أن يحثوا نثرهم ليلحقوة بقافلة الشعر ، ولكنه أبى إلا أن يبرك بهم في مكانه ، لأن الجديد والحدا ثة لا تعني نقض الأساس الذي بُنِيَ عليه الفن



د/ سعد عبد القادر العاقب
كلية التربية والآداب - جامعة تبوك
بواسطة : الدكتور سعد عبد القادر العاقب
 1  0