×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
محمد آل الياس

الاشتراك العلمي
محمد آل الياس

ما من كائن في هذه الحياة إلا وبينه وبين الموجودات التي حوله نوع من الاشتراك ، فبين الإنسان وغيره من الحيوانات الاشتراك في الخوف من المجهول ، وبذلك يتم التعايش في هذه الدنيا ، في مساحة المشتركات الموجودة .
وما أجمل أن ينطلق الإنسان مما يحسن ، وأن يدع مالا يحسنه إلى من يحسنه ويعرف تفاصيله ، وليس إشكالية العلوم في جزئياتها ، لأن الجزئية لن يُثيرها في الغالب إلا من هو من بني جلدة ذلك التخصص وذلك العلم ، وإنما الإشكالية تكمن في ذلك الجزء المشترك بين أنواع العلوم ، فإنه ما من علم إلا وبينهم قدر مشترك واتفاق عام .
وإن هذا القدر المشترك التي تتداخل فيه العلوم هو موضع الاختلاف والجدل بين فئات التيار الواحد ، أو الجماعة الواحدة ، لأن كلا منهم يرى أن له الحق في خوض غمار هذا القدر المشترك بحسب تراكماته العلمية ، وحسب مبلغه من العلم بذلك القدر .
لذلك فأغلب الخلاف في الآونة الأخيرة ينصب على هذا القدر المشترك ، الذي يرى كل فرد من أفراد النخب أن له كامل الأحقية في التحدث عنه ، وإبداء الآراء المتعلقة به ، وحل المشكلات والمعضلات المتعلقة بذلك .
ومن أبرز تلك الاختلافات التي هي موجودة اليوم على الساحة ، هو اشتراك الناس في علم الديانة بعمومها ، فهو العلم الوحيد الذي يطمئن من حوله ، ويكسبه نوعا من الارتياح ، لأنه يجيب على المشكلات الكبرى ، والهواجس التي تؤرق المرء ، وخصوصا تلك التي تحدث بعد موته وانتقاله من هذه الدنيا ، وبداية خلقه وتكوينه ، ولذلك أكسب هذا العلم لمن يتلقاه نوعا من الارتياح والطمأنينة ، فكل من يتحدث بهذا المنطلق ستجد أنه مصدق ويستجاب له ، فعند التأمل ستجد أن أغلب الثورات اقصد القديمة منها- قامت من هذا المنطلق ، حتى الثورات التي تحمل نهجا مغايرا مثل ثورة مارتن فإنه كان يثور ليفسر الكتاب المقدس .
ولا أشك أن هذا الجانب أصبح هو الجانب المستغل ، لأنه الجانب الذي يأسر المتلقي ، أيا كان هذا المتحدث ، لأنه مجال يشترك فيه الناس أجمعون ، مهما اختلفت مشاربهم ، واختلفت آراؤهم ، لذلك هو الجانب المؤثر في المجتمعات بالدرجة الأولى .
ولو تأملنا جميع العلوم العلمية والتطبيقية ، فإنا سنجدها قطعا لابد أن تعود وتنطلق من الثوابت والمبادئ التي يؤمن بها مجموعة من الناس، فيحاولون تسخير تلك العلوم لما لا يخالف تلك الثوابت ، وقد اختلف تسخير الناس لتلك العلوم بين راد لها أواتهامها بالانحراف ، وبين مؤلف لها ومنافح عنها يردد عدم التعارض بينها وبين الثوابت والمبادئ التي يؤمن بها ، وأن إيهام التعارض ضرب من أضرب الوسواس القائم على الهوس والخوف من أجل المحافظة على الطهر والنزاهة .
إن هذا مثال على الاشتراك العلمي الذي يقع فيه الناس ، وتختلف الأفهام عليه ، فكل يرى أنه مؤهل وأهل للقيام بهذا العلم والتحدث باسم أهله .
وهذا الأمر لا ينبغي أن نجعله حاجزا للناس من تعلم هذه العلوم ، بحجة الخصوصية لأهله ، وما إلى ذلك من أوهام التخصصات التي تختلق اليوم لتكون مادة دسمة للرد على المخالف ، بل يجب علينا أن نوسع الدائرة وأن نجعل الجميع يشارك بالفهم والنهل من هذه العلوم بحسب طاقته وقدرته .
ولابد من هذا الاشتراك ووجوده في العلوم ، ولكنه يصبح ظاهرة غير صحية إذا كانت هناك محاولة لاستغلال هذا الاشتراك في إحداث الإرباك داخل المجتمع ، بحجة الاشتراك ، ويصبح ظاهرة غير صحية إذا كان المتحدث لم يحاول القراءة في هذا المشترك كعلم ينهل منه ثوابته ومبادئه وركائزه الأصلية التي ينطلق منها ، لا أن يعمد إلى قراءة الحركات التي تتبنى هذا العلم الذي فيه نوع من الاشتراك معه ، ويبدأ ويحكم بالأحكام جزافا ، ويصبح ظاهرة غير صحية إذا لم يكن يؤمن بهذا الاشتراك ثم يدعي نفي العلم الذي يقع فيه الاشتراك لنظرياته التي يؤمن بها ، لا من أجل وجود حقيقة النفي ، ولكن من أجل طمأنة الناس لخطابه الذي يريد إبلاغه للجمهور .
إن البلاء الذي نواجهه في هذا الاشتراك ، هو التعدي على أهل كل فن وجهابذته بحجة هذا المشترك ، فيخالف أصول متفق عليها ، ومصالح تم الإقرار عليها عند أهل الفن .
والكلام هنا منصب على محل الاتفاق ، أم محل النزاع فالأمر فيها أوسع ، ولكن يواجه أصحاب الاشتراك مع المتخصص في علم من العلوم بعدم الأهلية ، وعند التمحيص في مدلول هذه اللفظة ستجد أن المقصود محصور في الشهادة الأكاديمية ، وهذا خطأ شائع يحمله بعض المجتمعات ، فكثير من المجتمعات ما عادت ترضخ تحت وطأة هذه المفهوم ، فكم من أكاديمي لا يحمل من شهادته إلا اسمها ؟ .
إن إيماننا بهذا الاشتراك ، يعني إيماننا بوجود مفاهيم جديدة ، ومساجلات علمية نزيهة ، تتسع الساحات للتعايش في ظله ، ويقل من خلاله الاتهامات المجازفة ، التي تكون سببا للفرقة ، وللخروج بصوت المعارض الحاقد ، لأنه فتح بابه لتقبل وجهة نظر نزيهة ، فوجد الاتهامات تصب عليها صبا ، فلنوسع دائرة المشترك ، كما هو موسع في أصل خِلقة هذا الكون .
m.a.d.y@hotmail.com
محمد آل الياس
بواسطة : محمد آل الياس
 3  0