“العملة الصعبة”

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» رواه الطبراني في معجمه، والبيهقي في شعب الإيمان، وصححه الألباني.
أي عمل يقوده التخطيط الجيد، والرغبة الصادقة في نجاحه، والشغف المُتولد من حبه، مع حُسن التوكل والافتقار، يُغلف ويُختم بمسك التوفيق.
ومع كل هدف يتم تحقيقه ترتفع معه القيمة الحقيقية للعامل به، وقد أحسن ابن الوردي في لاميته حين قال :
“قيمة الإنسان ما يُحسنه
أكثر الإنسان منه أو أقل”
وعلى قدر إحسانك تكون قيمتك في رصيد النجاحات وميزان القَبُول بين الناس، ولكن كلما كان هناك صعود نحو تلك الرغبة، كانت هناك ضريبة تُدفع تختلف نسبتها في مؤشر الصحة والراحة النفسية، والعلاقات الشخصية والعائلية، بالاضافة إلى أن طبيعة النفوس البشرية، والفروقات الفردية لفريق العمل، تستلزم فهم وتطبيق فقه الخلاف والاختلاف ومراعاة المآل، مع إعادة ضبط معيار التوافق، ومحاولة الانسجام التام مع كل لون للمحافظة على تقليل خسائر تلك الضريبة.
مشكلتنا اليوم ليست في محاولة بذل المزيد من الجهد، ولا في ضبط مهارة الاتقان، فكل من سنحت له الفرصة المناسبة سيبدع فيما يُحسنه، بل جوهرها يكمن في صعوبة خلق بيئة صالحة ومناسبة تحث الجميع، بروح الفريق الواحد المتجانس، والشعور بالمسؤولية المتبادلة بين الجميع، هو المولد الحقيقي لمواصلة الصعود.
فالنجاح الحقيقي هو في صناعة التأثير، والمشاركة في خلق التغيير، كعلة مؤثرة ومُوريةٍ قادحةٍ، تستنهض الهمم وتتقن فن التّحفيز، فالبيئة المناسبة والأرض الخصبة، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وإن تعاقب عليها الوارثون.
ولنا في أسراب الطيور المهاجرة عبرة، تبدأ بانسجامها مع قائدها مكونةً الرقم سبعة، وتناوُب القيادة من خلال تقدم الأكفأ في كل مرحلةٍ تقطعُها إلى أن تصل لوجهتها، بدون تنافس على السلطة، في تنظيم غريزي يهدف لسلامة السرب من التشتت والضياع، فالجميع بعقل الفرد، والفرد بعقل الكل، يشد بعضه بعضا.
وخلاصة القول: مهما حاولنا رفع قيمة عُملتنا بما نُحسنه من إنجاز وعمل، إلا أنه سيبقى يفتقر لعوامل الدعم والتأثير فالنجاحات الفردية ستبقى فردية، ولا يشعُر بها إلا أصحابها، والنجاحات التي يتشاركها الجميع ستستمر باستمرار أفرادها حتى وإن توقف بعضهم، فالعمل المؤسسي عمل مثمر، وسيبقى مستمراً، وقيمته ستزداد مع الوقت.
وكل نجاح تصنعه المصالح الشخصية هو نجاح مؤقت كعلة قاصرة نفعها على صاحبها، وستختفي مع أول منعطف ينزل فيه، ولا يبقى إلا العمل الذي تعلوا قيمته بقدر الأمانة التي يتشارك في حملها الجميع، فإن ضعفت همتنا لقلة السّالكين، فإن الأخلاق والسمعة الحسنة هي العملة الصعبة الباقية والمكسب الحقيقي الذي سنجنيه في نهاية المطاف.
قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: ( الدِّين كلهُ خُلق فمن زاد عليك في الخُلق زاد عليك في الدين ).
وفي زمن تتقلب فيه القيم، وتختلط فيه الموازين، ويضعف فيه اليقين، يبقى صاحب “العملة الصعبة”، عملة نادرة يتميز بالصدق، ويتحلى بالأمانة، وهما أساس القبول وسبيل التوفيق، وعلاقته بالناس مبنية على الاحترام والتقدير وحسن الخلق، ومع ربه على التسليم والقناعة والرضا، والتعفف عمّا لم يُقدّر له، ومن اجتمعت فيه تلك الخصال نال الخير كله، مِصداقُ ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : «أربع إذا كن فيك، فلا عليك ما فاتك من الدنيا، صِدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحُسن الخلق، وعفة مطعم». رواه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه على الصحيحين، وصححه الألباني.

كتبه د. يحيى بن محمد سليمان عري.
أستاذ أصول الفقه في كلية الشريعة والقانون بجامعة تبوك.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *