كيف تُخلِّد ذاتك في أرواح العابرين؟

ما أكثرَ السائرين في دروب الحياة، يُثيرون الغبار بأقدامهم، ثم تمحوهم الريح كأن لم يكونوا. وما أندرَ أولئك الذين إذا مرّوا، مرّ النسيم بعبيرهم، وبقي الأثر بعد رحيلهم، كأنما خُطَّت خطواتهم على الأرواح لا الأرض، ونُقِشَت ذكراهم في الصدور لا في الرمل.
فليس الخلود في قلوب الخلق بكثرة المخالطة، ولا بطول المجالس والأنس، ولكن بسحر الطبع، وجلال الخُلق، وصفاء المعشر. هو مجدٌ لا تُشيّده مناصب، ولا ترفعه خزائن، بل يُستخرج من كنوز النفس إذا زُكّيت، ويُسكب في الأرواح كما يُسكب العنبر في مواسم الطيب.
وقد قال سيّد الخَلق ﷺ: “إن أحبّكم إليّ وأقربَكم مني مجلسًا يومَ القيامة أحاسنُكم أخلاقًا”. فانظر، رُزِقتَ البصيرة، كيف جعل القرب منه، لا لأهل الطاعة الظاهرة، بل لمن أضاءت أخلاقه الطريق، ورقّت روحه حتى صارت سلامًا يُؤوى إليه. فاجعل مجلسك أريجًا لا يُملّ، لا جلبةً تُستثقل، فإنّ النفوس مولودة على حُبّ من يُكرمها ولو بطرف عين، ومفطورة على نُفورٍ ممن يُثقِلها وإن تسلّح بالوعظ. تبسّمك – وهو أهون العطايا – صدقةٌ تُحتسب،
فكيف بمن أهدى التبسّم، وزاد عليه حِلمًا يُحتوى، وصمتًا يُؤدَّب، ووقارًا يسكب الطمأنينة في القلوب؟ وها هو العيد يلوح من وراء الأفق،
موسمُ التلاقي والتآلف، حيث تُغسل الضغائن بماء الرضا، وتصافح الأرواح قبل الأكُفّ. فلا تجعل زينتك في ملبسك وحده، بل في عذوبة حديثك، وفي سموّ خُلُقك، وفي نور حضورك. اجعل عيدك وقارًا يفيض، وكلمةً تُحيي، ونظرةَ عطفٍ تُرمم وجعًا نائمًا في صدر أحدهم منذ دهر. واجعل “العيدية” أثمن من درهم: لحظةَ حنان، أو دعاءً في ظهر الغيب، أو وقفةَ نُبلٍ تَسكُن بها روحٌ ذابت. وفي البيوت حيث يُصاغ الوجدان وتُنسَج القيم، علّم القلوب التي تحت سقف واحد أنّ الزواج ليس موالاة جسد، بل مؤاخاة روح، وبناءُ مجدٍ مشترك. فليكن ما يُورَّث منهما سكينةً تُغرس، وسيرةً تُروى، ومجالسةً يُحتذى بها. اجعل حديثهما زادًا في المجالس، وصبرهما علمًا في النوائب، وحنانهما جُذورًا تورق في قلوب الأبناء، فإنّ الطفل لا يتعلم أول الدروس من فم المعلّم، بل من سكون البيت، ومن سمت الأبوين، ومن دفء التفاصيل. ويا حسرةَ القلوب على أبناء ضيّعهم آباءٌ ما فقهوا التربية!..كم من غلام نشأ غليظًا لأنّه لم يعرف من أبيه إلا العبوس، وكم من فتاةٍ أُطفئت أنوثتها لأنّها لم تذق حنانًا يُقتدى به، ولا رأَت حبًّا يُحكى عنه. وفي ساحات العمل حيث تُختَبر المعادن، وتُعرض الأخلاق على محكّ المصالح، ترى من صغُر وهو في علّيته، لأنّه أساء خُلقه، وتجد من ارتقى وهو في بداياته، لأنّه عظّم خلقه، ورفَع الكَلَمَة حتى كانت تاجه.
فلا تُصغّر شأن الكلمة، فإنها قد ترفعك أو تهوي بك، ولا تستهِن بابتسامة، فقد تفتح بها من القلوب ما لا تفتحه مفاتيح السلطة.
وقد صدق زهير بن أبي سُلمى:
“ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ
وإن خالها تخفى على الناس تُعلَمِ”
وفي الطرقات، تجد من يحمل لسانًا كالسيف، يقطّع به نياط النفوس، وتجد من لا يملك إلا سكينة وجهه، فيُحدِث بها في الأرواح ما تعجز عنه كنوز الدنيا. وفي غمرة المجتمع حيث تتزاحم الهموم وتتنافر الطبائع، كُن كما أمر الله نبيّه: “واخفض جناحك للمؤمنين”
تواضعْ، ورفُقْ، ولا تزدرِ من لا مال له، ولا تحتقر من لا حيلة له، فلعلّ دعوةً من قلبٍ منكسر ترفعك، أو بسمةً تصنعها في وجه متعب تُكفِّر عنك أثقالًا لا تدريها. وقد قال ﷺ:
“أحبّ الناس إلى الله أنفعهم للناس”
فابسط نفعك في المجالس كما يُبسط الظلّ، وانثر طِيبك كما تنثر الأشجار أزهارها على العابرين. واعلم، يا من ترجُو الخلود في القلوب،
أنّ الجمال الذي يخلّده الناس ليس لباسك ولا مالك، بل أثرك، وخُلقك، وسريرتك. وإنّ أجمل ما يُروى عنك إذا طُويت صحيفتك:
“مضى، ولكنّه خلّف فينا شيئًا من نُبله لا يُنسى، وعطرًا من روحه لا يذبل.”

وكتبه/ فائز بن سلمان الحمدي


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *