مجالسُ الواتس آب…

ما أعجبَ هذا الزمانَ الذي شاءَ اللهُ أن يشهدَ فيه الإنسانُ ثورةَ الاتّصالِ والمعرفةِ؛ حتّى غدتِ الدُّنيا في كفَّيْه شِبرًا، وغدا صدى الكلمةِ يخترقُ الآفاقَ في لمحِ البصرِ، بعد أن كان يقطعُها الرَّكبُ في كرِّ الدهورِ!. لقد أشرقتْ شمسُ هذا العصرِ على فضاءٍ رقميٍّ عجيبٍ؛ تتعانقُ فيه الأفكارُ، وتُسافرُ فيه المشاعرُ، وتُطِلُّ من نوافذِ الهواتفِ واللّوحاتِ إلى القلوبِ والأذهانِ، فيفيضُ على النفوسِ مدادُ الحروفِ بما لم يخطرْ في وهمِ الأوّلينَ.

وما كانتْ مجموعاتُ التواصُلِ الاجتماعيِّ وفي طليعتِها مجموعاتُ الواتس آب إلّا نافذةً من هذه النَّوافذِ البهيّةِ؛ جمعت القريبَ بالبعيدِ، وصنعتْ بين الإخوةِ والأصدقاءِ مجلسًا افتراضيًّا لا تُحدُّهُ جُدرانٌ، ولا تُقيِّدُهُ المسافاتُ. أجل، لقد غدتْ هذه المجالسُ مواطنَ أُنسٍ، ومنابرَ فضلٍ، وسُقيا رُوحٍ في صحراءِ العُزلةِ الرقميّةِ، يومَ أحسنَ القومُ التصرّفَ فيها، وزيَّنوا محتواها بحُليِّ الأدبِ، وارتقوا بطرائقِ التواصُلِ فيها فوقَ سفاسفِ الحديثِ وهُزالِ البيانِ.

ومن ذا يُنكرُ أثرَ الكلمةِ الطيّبةِ إذا خرجتْ من قلبٍ صادقٍ؟!. كم من هِمَّةٍ مكدودةٍ أيقظها همسُ نصيحةٍ في ثنايا سطرٍ، وكم من قلبٍ موهنٍ أشرقتْ عليه أنوارُ مواساةٍ صادقةٍ، وكم من دربٍ تاهَ سالكُهُ فهداه بيتُ حكمةٍ، أو اقتباسُ موعظةٍ، أو حديثُ تجرِبةٍ صقَلتْها معاركُ الحياةِ!
وما أحوجَنا في هذا العصرِ إلى إتقانِ فنِّ الكلمةِ الراقيةِ؛ فإنّها في خِضمِّ السيلِ الرقميِّ المتدفِّق كالنخلةِ الباسقةِ: تُلقي ظلًّا وارفًا، وتُهدي ثمرًا طيّبًا. إنَّ من أسمى المقاصدِ التي تُرتجى في هذه المجالسِ أن تكونَ مناراتٍ تهدي، ومواسمَ تثقيفٍ تزكِّي العقولَ، وتُهذِّبُ النفوسَ، وتروِّحُ عن القلوبِ. غيرَ أنَّه لا يَليقُ بمَن رامَ صيانةَ المجلسِ أن يُكثِرَ من كفِّ الألسنةِ وإخمادِ الأنفاسِ، ثمَّ يُخلِّي الساحةَ فراغًا لا يُملأُ بمعنى، ولا يُنبتُ نَدى! فليسَ الجمالُ في الصمتِ وحدهُ، بل في ملءِ الفضاءِ بالكلمةِ الطيّبةِ، والفكرِ النيّرِ، والمضامينِ الرفيعةِ.

وما أضيقَ المجلسَ إذا علا فيه صوتُ: «اسكت»، ولم يَصدَحْ فيه صوتُ: «تفضَّل»، وما أثقلَ على الأرواحِ إذا أُغلِقتْ فيه الأبوابُ دونَ البدائلِ الحيّةِ الهاديةِ. فلتكنْ دعواتُ التهذيبِ مشفوعةً ببذلِ الخيرِ، ولتكنْ دعوةُ السُّكوتِ مسبوقةً ومُلْحَقةً بدعوةِ البناءِ؛ إذ لا يُقيمُ صَرحَ الفضلِ مَن يهدمُ ولا يعمُرُ.

وإنَّ المجالسَ التي تُزهِرُ حقًّا هي تلكَ التي يُجمَعُ فيها بينَ وقارِ الحرفِ، وانطلاقِ المعنى، وبينَ حُسنِ الغَرسِ، وجمالِ الحصادِ. لكنَّ الترويحَ المشروعَ فيها ينبغي أن يكونَ ترويحًا ذا معنى؛ لا يبدّدُ الوقارَ، ولا يُهدرُ الأوقاتِ عبثًا، بل يُبقي النفوسَ في دائرةِ الجِدِّ، معَ نفحاتِ راحةٍ تُعيدُ لها وهجَ المسيرِ. وصناعةُ الأثرِ الجميلِ لا تحتاجُ إلى إسهابٍ ولا تكلّفٍ؛ يكفي أن نُراعي في كلِّ ما نكتبُ صدقَ النيّةِ، ونقاءَ القصدِ، وروعةَ السبكِ، وجمالَ الأسلوبِ، وحرمةَ الوقتِ الذي نبذلُهُ نحنُ والقرّاءُ في قراءةِ كلِّ ما يُطرَحُ. وليَعلمْ كلُّ كاتبٍ، وكلُّ ناشرٍ، أنَّ ضغطةَ «إرسال» ليستْ مجرَّدَ نقرةٍ على شاشةٍ؛ بل هي أمانةٌ عظيمةٌ تُسطَّرُ في صحائفِ الأعمالِ، يطّلعُ عليها الواحدُ الديّانُ يومَ لا يَخفى عليه خافيةٌ. فيا لَكرامةِ المجلسِ إذا عُرِفَ بأنّهُ منبرٌ يُجلُّ الوقتَ، ويحترمُ القارئَ، ويصونُ الكلمةَ كأنّها وديعةٌ من نورٍ!
ويا لَجمالِ الأثرِ إذا أُزهِرَتْ فيه أزهارُ الحكمةِ، وأثمارُ المودَّةِ، ورياحينُ الأدبِ الرفيعِ!
أيُّها القارئُ النبيلُ، أيُّها الرّفيقُ في دروبِ الكلمةِ: إنَّ هذا الفضاءَ الرقميَّ الذي بينَ أيدينا وإن بدا بَحرًا متلاطِمًا من الصورِ والأصواتِ فهو ميدانٌ رحبٌ لمن رامَ أن يزرعَ فيه نبتةَ معنى، أو يَسقيَ فيه غرسَ حكمةٍ، أو يُهديَ فيه قلبًا عابرًا إلى شاطئِ الخيرِ. وإنَّك بمشاركتِك الراقيةِ، وبحرصِك على طيبِ الأثرِ، تُسهِمُ في بناءِ هذا الصرحِ، وفي تهذيبِ هذا المحفلِ، وفي إحياءِ قيمةِ الكلمةِ الطيّبةِ في زمنٍ يوشكُ أن يختنقَ فيه الجمالُ بينَ ركامِ الهزلِ والتفاهةِ. فهَلُمَّ يا رعاكَ الله إلى مجالسَ تُعظِّمُ الكلمةَ، وتُجلُّ العقلَ، وتُبهجُ الروحَ؛ لا تكنْ فيها مجرَّدَ متلقٍّ، بل صانعَ أثرٍ، وواهبَ معنى، وباذلَ أدبٍ.
ولْنَكتبْ، ولْنُرسِلْ، ولْنُعلِّق ونحنُ نستحضرُ أنَّ بينَ الحروفِ ميزانًا يُوزَنُ، وبينَ المشاركاتِ أثرًا يُؤجَرُ أو يُؤزَرُ. فلنُحيِ معًا سُنَّةَ الكلمةِ الصالحةِ في زمنِ الرقمنةِ الجارفةِ. وما توفيقُنا إلّا باللهِ؛ عليهِ توكَّلْنا، وإليهِ نُنيبُ.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *