منذ أن خلق الله آدم، والقتل محرَّم ومجرَّم في جميع الشرائع. ومنذ أن قتل قابيل أخاه هابيل، أول جريمة في تاريخ البشرية، والدماء ما زالت تكتب مآسيها في صفحات الإنسان. قال تعالى:
(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
لقد جاءت الشريعة الإسلامية بحكمٍ واضحٍ ورادع في القصاص، حفظًا للنفوس وردعًا للمجرمين:
(ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)،
كما فتحت باب الرحمة والعفو:
(فمن عفا وأصلح فأجره على الله).
ومنحت الشريعة لورثة القتيل الحق في المطالبة بالقصاص أو العفو أو أخذ الدية، إلا أن بعض ما نشهده اليوم من مبالغات فلكية في طلب الديات تجاوز حدود المعقول، وأصبح عبئًا ثقيلًا على أهل القاتل، يدخلهم في مشقة بالغة ومعاناة نفسية ومالية لا تُطاق.
لقد تحوّلت بعض الديات إلى أرقام خيالية بملايين الريالات، ليبدأ معها سباق مرير لجمع المبالغ، تتصدره مناشدات عبر وسائل الإعلام ووسائط التواصل، يظهر فيها أمهات وأطفال يستغيثون بأهل الخير لسداد هذه المبالغ الضخمة.
ولعل أبرزها مؤخرًا مناشدة أم شاب في منطقة تبوك لجمع دية تُقدَّر بـ 12 مليون ريال للعفو عن ابنها، وهي لا تملك من متاع الدنيا شيئًا.
نعم، لأولياء الدم الحق في طلب الدية، ولكن المغالاة التي تتجاوز حدود المعقول تخالف مقاصد الشريعة التي جاءت لرفع الحرج لا لزيادته، وجعلت العفو سبيلًا إلى الأجر والرفعة، لا إلى التجارة والابتزاز.
قال النبي ﷺ: (من قُتل له قتيل فهو بخير النَّظرين: إما أن يُؤدى أو يُقاد).
ولا شك أن العفو هو الخيار الأسمى؛ فالله تعالى وعد العافين بأجر عظيم لا يُقدّر بثمن، فقال سبحانه:
(فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين)،
وقال أيضًا: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس).
وفي الحديث الشريف: (وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا).
ومنطقة تبوك كانت وما زالت مثالًا مشرفًا في هذا الجانب، حيث شهدت على مدى عقود طويلة مواقف نبيلة لأهلها في العفو لوجه الله تعالى دون مقابل.
ومن أوائل هذه المواقف موقف الشيخ عبدالله بن عتيق الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه قبل أكثر من 37 عامًا ابتغاء وجه الله.
وهذه مرزوقة البلوي، أرملة تسكن في سكن خيري، تنازلت عن قاتل ابنها دون أن تُغريها الملايين.
وذلك عبداللطيف الربيلي العطوي الذي رفض عرضًا بـ25 مليون ريال في ساحة القصاص، وفضّل ما عند الله.
وأخيرًا ناصر السحيمي البلوي الذي استقبله سمو أمير منطقة تبوك الأمير فهد بن سلطان بن عبدالعزيز تقديرًا لعفوه، وكذلك المواطن حمود الحويطي الذي تنازل عن قاتل شقيقه لوجه الله تعالى ونال إشادة سمو نائب أمير المنطقة الأمير خالد بن سعود بن عبدالله الفيصل.
هذه النماذج المضيئة من أبناء تبوك وغيرهم في مختلف مناطق المملكة تستحق أن تُخلّد، لأنها تجسّد روح الإسلام في أسمى معانيها.
وفي المقابل، فإن أولئك الذين جعلوا الدماء بابًا للثراء وجعلوا من الديات تجارة رابحة، لم يجنوا إلا الخسارة. فكم من أموال جمعت في هذا الباب ثم ذهبت سدى، وكم من بيوت انهارت تحت ثقلها، وكم من أسر تجرعت مرارة الحاجة والديون.
لقد آن الأوان لوضع أنظمة حازمة تحد من هذه المبالغات التي تُرهق المجتمع وتُخالف مقاصد الشريعة.
فالدماء لا تُقوَّم بالمال، والعفو لا يُقاس بالملايين، وإنما يُوزن بميزان الإيمان والرجاء فيما عند الله
بقلم | عبدالرحمن محمد العطوي – إعلامي وتربوي

اترك تعليقاً